الجمعة، 4 مارس 2016

قضية كنيسة المسكوبية في الخليل والأطماع الروسية في فلسطين




ثارت بالفترة الأخيرة قضية محاولة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية استملاك قطعة أرض أقيمت عليها الكنيسة المسكوبية في مدينة الخليل، وتصدر حزب التحرير القضية التي بدأت تتحول إلى قضية رأي عام، فما قصة هذه الكنيسة الموجودة في محافظة لا يوجد بها مسيحيون؟ وما دخل روسيا بالموضوع؟ هذا ما سأحاول إلقاء الضوء عليه، كما سأتكلم بتوسع عن الأطماع الروسية في فلسطين في القرنين الأخيرين.

النزاع يدور حول قطعة أرض مساحتها أكثر من ثمانين دونمًا استأجرها الروس قبل أكثر من 140 عامًا، وبنوا عليها عام 1906م كنيسة المسكوبية؛ والمسكوب تعني الروس (نسبة إلى موسكو)، وتحاول الكنيسة الروسية مستعينة بحكومتها إقناع السلطة الفلسطينية تسجيل الأرض باسمها مستغلة ثغرات قانونية تتيح للمستأجر استملاك الأرض ضمن ظروف معينة.

وفي المقابل هنالك معارضة شديدة من أصحاب الأرض، وهي وقفية إسلامية باسم الصحابي تميم الداري، وخاصة أن مدة الإيجار كانت لمدة 99 عامًا وقد انتهت دون تجديد بل وتم التوقف عن دفع الإيجار منذ عام 1960م، وذلك خوفًا من تسلل الاستيطان الصهيوني عبر الكنيسة وليس رغبة في هدم الكنيسة أو طرد الرهبان منها.

وهنالك تاريخ طويل في المحاكم والدوائر الحكومية للصراع حول محاولة الكنيسة استملاك الأرض، لكن السؤال الذي لم أجد الإجابة الشافية عليه لحد الآن هو لماذا تمت الموافقة في الأصل على تأجير أرض إسلامية إلى كنيسة روسية؟

 تقرير يوضح تطورات قضية الكنيسة في المحاكم

ربما نفهم الأمر في إطاره الأوسع حيث كانت فلسطين محط أنظار القوى الاستعمارية منذ منتصف القرن الثامن عشر تقريبًا، وكان هنالك مشاريع استعمارية كثيرة (منها المشروع الصهيوني) تغلغلت في فلسطين، دون وجود وعي بالأخطار الاستعمارية.
 
الأطماع الروسية في فلسطين:

قد يكون مفاجئًا للكثيرين أن روسيا القيصرية كانت في طليعة الدول التي حاولت استعمار فلسطين ، حيث دعمت تمرد ظاهر العمر الزيداني في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وهو أحد مشايخ صفد كانت له طموحات للزعامة فهاجم طبريا والناصرة وعكا وعجلون وضمها لنفوذه، وفي سبيل ذلك تحالف مع الروس الذين أمدوه بالسلاح.

كما تحالف مع دروز جبل لبنان والمتاولة (شيعة جنوب لبنان) كما طلب من الأسطول الروسي قصف بيروت ويافا من أجل إخضاعها لحكمه، وفي يافا قام أهل المدينة بمهاجمة السفينة التي كانت تقصفهم وقتلوا عددًا من البحارة وأسروا آخرين.

واقتاد الأسرى الروس أحد مشايخ جبل نابلس وهو مصطفى بيك طوقان إلى مدينة نابلس وأعدمهم حيث جن جنون ظاهر العمر بسبب الإحراج الذي حصل مع حلفائه الروس، ثم استعان بقائد المماليك في مصر علي بيك الكبير وضمه إلى التحالف مع روسيا، وقام بإرسال قوة عسكرية لمساعدة ظاهر العمر حيث استطاع ضم كامل فلسطين لسيطرته ثم انتصر على والي الشام ودخلت قواته دمشق، إلا أن قائد قواته محمد بيك أبو الذهب قرر العودة إلى مصر وانقلب عليه، وأعاد ولاء مصر إلى الدولة العثمانية وقطع العلاقات مع الروس.

وترك ظاهر العمر وحيدًا رغم استمرار الروس بتزويده بالسلاح، وحاول محمد بيك أبو الذهب القضاء على تمرد ظاهر العمر إلا أنه لم يستطع ذلك، وتوفي قبل إتمام المهمة.

أحمد باشا الجزار:

وهنا يأتي دور أحمد باشا الجزار وهو شخصية مثيرة للاهتمام، فقد ولد لأسرة صربية أرثوذكسية في إحدى قرى البوسنة، وهرب منها وعمره 15 عامًا إلى إسطنبول حيث اعتنق الإسلام وعمره 18 عامًا وسمى نفسه أحمد ثم انتقل إلى مصر حيث عمل تحت إمرة المماليك.

أثناء وجوده في مصر ترقى في سلم الحكم تدريجيًا، واكتسب لقب الجزار بعد أن قمع تمرد إحدى العشائر البدوية في منطقة البحيرة، وبسبب الخلافات الداخلية بين المماليك هرب إلى بلاد الشام والتي كانت تشهد تمرد ظاهر العمر.

وبطلب من الشهابيين أمراء جبل لبنان توجه إلى بيروت التي دمرها الروس بقصفهم البحري وقام بترميمها وتقوية حصونها، ثم أعلن ولاء المدينة إلى الدولة العثمانية، مما أغضب الشهابيون وحلفاء ظاهر العمر من الدروز والمتاولة.

فتم حصار بيروت لمدة عشرة أشهر كان الروس يقصفونها بحرًا فيما يحاصرها الدروز والمتاولة برًا، إلى أن اضطر أحمد باشا الجزار إلى تسليم المدينة بعد أن اضطروا لأكل لحم الكلاب والقطط لشدة الحصار.

ثم توجه بعدها إلى اسطنبول وعمل على إقناع العثمانيين بضرورة إرسال قوة للقضاء على ظاهر العمر، لأنه حتى ذلك الحين استهان العثمانيون بتمرده واعتبروها مجرد صراعات داخلية بين المشايخ الإقطاعيين، فأقنعهم الجزار بخطورة الدعم الروسي المقدم لظاهر العمر.

أرسل العثمانيون قوة بحرية على رأسها قائد الأسطول العثماني حسن باشا الجزائري، وهاجمت عكا حيث قتل ظاهر العمر ثم تولى الجزار القضاء على نفوذ أبناء ظاهر العمر.

ومكافأة للجزار تم تعيينه واليًا على ولاية صيدا (التي امتدت من حيفا جنوبًا إلى طرابلس شمالًا)، لكنه أقام أغلب الوقت في عكا التي بالغ في تحصينها وبنى لها سورًا مزدوجًا والتي لعبت دورًا في إفشال المشروع الاستعماري الفرنسي لاحقًا.

ولا بد من الإشارة إلى أن أغلب المؤرخين متحاملون على الجزار ومنحازون لظاهر العمر، وذلك لأن أكثر مؤرخي تاريخ فلسطين الحديث هم من القومجيين أو المسيحيين، ويعتبرون تمرد ظاهر العمر "أول حركة تحرر من الاستعمار العثماني" بينما كان الجزار مواليًا للعثمانيين ومعاديًا للأقليات الدينية (المسيحيين والدروز والمتاولة الشيعة).

لم يكن الجزار ملاكًا ولا صحابيًا وكان له بعض الممارسات التي كانت مقبولة في زمنه لكنها غير مقبولة بالميزان الأخلاقي أو موازين زمننا المعاصر، إلا أني وجدت منه حمية وتعصبًا للإسلام رغم أنه ولد مسيحيًا وأن والده كان خوري الكنيسة في قريته، كما كان له دور حاسم في حماية فلسطين مرتين: من الاستعمار الروسي ومن الاستعمار الفرنسي.

المشاريع الاستعمارية الغربية في فلسطين بالقرن التاسع عشر:

بعد ما تولى الجزار حكم الساحل الشامي اكتشف الدور الخطير للتجار الفرنسيين الذين احتكروا التجارة بين الشام وأوروبا بموجب فرمانات تصدر عن الخلفاء العثمانيين منذ القرن السادس عشر، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الاستعمار الأوروبي تغلغل في مختلف دول العالم عن طريق التجارة أولًا التي مهدت للجيوش والاستعمار المباشر.

وحتى تفهموا قوة التجارة في تسهيل الاستعمار أنصحكم بالقراءة عن شركة الهند الشرقية وكيف كانت الأداة التي مكنت لبريطانيا استعمار الهند.

حاول الجزار احتواء التجار الفرنسيين وإبقاءهم تحت نظره فبنى لهم خانًا في عكا، ثم سرعان ما قرر طردهم جميعًا من بلاد الشام وعندما واجهوه بالفرمان السلطاني العثماني قال لهم بكل جرأة "هنا تطبق قوانيني وليس قوانين السلطان."

ويعتقد أن هذا كان أحد أسباب توجيه نابليون حملته إلى بلاد الشام، وربما كانت مجرد ذريعة حيث كان لديه طموح بحكم العالم ونشر تعاليم الثورة الفرنسية، فأرسل حملته الشهيرة واصطدم بعكا المحصنة جيدًا وتكبد جيشه خسائرًا كبيرة أثناء الحصار الطويل للمدينة، مما اضطره للانسحاب مدحورًا إلى مصر، وقدرت خسائر الجيش الفرنسي في الحملة بأكثر من ألف قتيل في المعارك وحوالي 1200 قتيل بسبب انتشار وباء الطاعون بينهم.

وبعد حملة نابليون تفتحت العيون الاستعمارية أكثر على بلاد الشام وفلسطين، وقدم الفرنسيون أنفسهم على أنهم حماة الكاثوليك المسيحيين في بلاد الشام، فيما قدم الروس أنفسهم على أنهم حماة الأرثوذكس، وفيما حقق الفرنسيون اختراقات وسط الموارنة إلا أن الروس لم يستطيعوا اختراق طائفة الروم الأرثوذكس.

عودةً إلى المشروع الاستعماري الروسي:

وشهد القرن التاسع عشر بدايات تغلغل استعمار وشراء أراضي وبناء كنائس وإرساليات تبشيرية، سواء من الروس أو الأمريكان أو الألمان كما شهدنا في نهايات القرن التاسع عشر (عام 1881م تحديدًا) بدايات المشروع الصهيوني مع جمعيات أحباء صهيون وكان القائمون عليها من يهود روسيا.

قام القياصرة الروس بشراء أراضٍ كثير في مناطق مختلفة من فلسطين وبنوا كنائس وأماكن إقامة للحجاج الروس ومن بينها أرض كنيسة المسكوبية في الخليل حيث توجد شجرة بلوط ضخمة يعتقد أن إبراهيم عليه السلام عاش تحتها.

وأيضًا بنوا نزلًا للحجاج الروس في القدس والذي حول لاحقًا في عهدي الاحتلالين البريطاني والصهيوني إلى معتقل ومركز تحقيق، والمعروف اليوم بسجن المسكوبية وللمفارقات فهو أسوأ مراكز التحقيق الصهيونية وكان يطلق عليه في فترة من الفترات بمسلخ المسكوبية لشدة سوء الأوضاع فيه.

وربما لا يعرف الكثيرون أن اتفاقية سايكس بيكو كانت بين أربع دول وليس دولتين؛ بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية وإيطاليا، وبسبب وضع فلسطين الديني والجغرافي تنازعت هذه الدول مصير فلسطين وفي النهاية اتفقوا على وضعها تحت وصاية دولية.

إلا أن تطورات الأحداث في الحرب العالمية الأولى أدت إلى انفراد بريطانيا باستعمار فلسطين وخروج روسيا من الاتفاقية بعد الثورة البلشفية عام 1917م، حيث دخلت في حرب أهلية استمرت لخمسة أعوام قتل فيها حوالي خمسة ملايين إنسان، بين البلاشفة الشيوعيين وأنصار النظام القيصري، وكان من آثارها انقسام الكنيسة الأرثوذكسية إلى قسمين: الكنيسة الحمراء وتتبع الاتحاد السوفياتي والشيوعيين، والكنيسة البيضاء التي تتبع أنصار القياصرة الذين تشتتوا في المنافي الأوروبية.

تضامن الاحتلال البريطاني مع الكنيسة البيضاء ومنحها جميع ممتلكات الكنيسة الروسية في فلسطين، ولكونها كنيسة ذات إمكانيات بسيطة وبدون دولة ترعاها فقد أهملت أغلب أملاكها، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وقدوم بوتين للسلطة بدأت رغبته بإعادة أمجاد روسيا القيصرية.

استغلت روسيا علاقتها الجيدة مع السلطة الفلسطينية لاسترداد أملاك الكنيسة الروسية، سواء التي تسيطر عليها الكنيسة البيضاء أو تلك التي أهملت، فعلى سبيل المثال بعد زيارة بطريرك الكنيسة الروسية ألكسي الثاني إلى فلسطين عام 1998م ولقائه مع ياسر عرفات، قامت السلطة بطرد الرهبان التابعين للكنيسة البيضاء من كنيسة المسكوبية في الخليل وسلمتها للكنيسة الحمراء (التابعة للدولة الروسية).

وهي سابقة تاريخية فقد حرص الحكام المسلمون لفلسطين على الوقوف على الحياد فيما يتعلق بالصراعات بين الطوائف المسيحية وعدم الانحياز إلى أي طرف باستثناء القيام بدور الحكم أو الوسيط برضا جميع الأطراف.

والآن برزت قضية تمليك الأرض المستأجرة إلى الكنيسة الروسية وخوف أهالي الخليل من تفريط السلطة، فهي صاحبة خبرة بالتفريط.

ورغم أن روسيا تحت حكم بوتين تسعى لإحياء أحلامها الإمبرطورية، إلا أن علاقة التحالف الوثيق بينها وبين الكيان الصهيوني التي بلغت ذروتها في التنسيق للحملات الجوية الروسية على سوريا، تدل على أن الروس لا ينازعون الصهاينة السيطرة على فلسطين، وأن سايكس بيكو الجديدة (نتنياهو – بوتين) تنص على ضم سوريا إلى النفوذ الروسي، فيما تكتفي روسيا باسترداد الكنائس والأملاك التي اشترتها في القرن التاسع عشر.

مشاريع استعمارية أخرى:

عمل الأمريكان على إرسال بعثات تبشيرية إلى فلسطين وبلاد الشام في القرن التاسع عشر، وعملت على استقطاب المسيحيين إلى المذهب البروتستانتي وبناء مضافات للحجاج الأمريكان (مثل الأمريكان كولوني في القدس)، إلا أنها لم تترجم إلى مشروع استعماري حقيقي بل اندمجت في المحيط الفلسطيني، فيما وجدت أمريكا ضالتها لاحقًا في المشروع الصهيوني.

كما عمل الألمان (حلفاء العثمانيين) على بناء عدد من المستعمرات في فلسطين ضمن طائفة تعرف بالتمبلرز (اتباع الهيكل) وبلغت أربعة مستوطنات بنيت بين عامي 1871م و1907م (سارونا، وويلهما، وبيت لحم الجليلية، ووالدهايم) بالإضافة إلى ما تعرف بالأحياء الألمانية في حيفا والقدس.

وبقي المستوطنون الألمان إلى ما بعد الاحتلال الإنجليزي وفي الحرب العالمية الثانية قام الإنجليز بترحيل غالبيتهم، فيما قامت العصابات الصهيونية بتهجير من تبقى منهم في حرب عام 1948م.

ومن المفارقات التي تدل على نفاق العالم أن الكيان الصهيوني وافق بطلب من الحكومة الألمانية على دفع تعويضات لهؤلاء المستوطنين الألمان عن أملاكهم التي استولى عليها الصهاينة، فيما يرفض هذا العالم الكلام عن حقوق المهجرين الفلسطينيين؛ سواء كانت عودتهم إلى أرضهم أو استرداد ممتلكاتهم أو حتى التعويض عنها.

في الختام:

رأينا كيف استغلت الدول الغربية ضعف الدولة العثمانية ورخاوة المجتمعات المسلمة (بما فيه المجتمع الفلسطيني) لكي تتغلغل وتشتري الأراضي وتنشئ المستعمرات، وتشتري الولاءات وتتلاعب بمصير هذه الأرض.

ويمكن الاستنتاج أن سقوط فلسطين في براثن المشروع الصهيوني هو تحصيل حاصل لضعف وتخلف الأمة الإسلامية، وأبلغ درس نتعلمه من تاريخ فلسطين هو أن العالم لا يحترم إلا الأقوياء الواعين الأذكياء، أما الضعفاء والحمقى فليس لهم إلا الحسرة.
 
ومما يبعث على التفاؤل أن مجتمعنا اليوم أصبح أكثر وعيًا تجاه المؤامرات الاستعمارية ولم يعد من السهل القيام باختراقات استعمارية مثل التي تكلمنا عنها بدون معارضة ومقاومة.

ليست هناك تعليقات: