الاثنين، 15 سبتمبر 2014

الهجرة من غزة في ذكرى أوسلو




تزايدت بعد الحرب الأحاديث عن وجود هجرة من غزة، وهي أحاديث لا تخلو من مبالغة مقصودة، وأغلبها معتمد على القيل والقال وليس على إحصائيات أو معلومات موثقة، ومرة نسمع عن غرق سفينة أمام الأسكندرية ثم يتبين كذب ذلك، وفي اليوم التالي نسمع استغاثات لركاب سفينة تهريب أمام بنغازي.

لكن الأكيد أن هنالك مشكلة سكانية مزمنة في غزة وقد تفاقمت بعد ثلاثة حروب، ولا أدري كم العدد الذي غادر غزة بالفترة الأخيرة لكن بما أن المعابر مغلقة، فالحديث عن ثلاثة آلاف شخص (كما تقول الإشاعات) مبالغ به جدًا.

وما يبدو لي هو وجود شبكات تهريب عبر الأنفاق ثم بطرق غير قانونية عبر البحر إلى شواطئ أوروبا، وهي رحلة تحمل الكثير من المخاطر ودفع أموال طائلة للمهربين، لكن البعض يظن أن الحياة الأفضل (التي يظنها) في أوروبا تستحق المخاطرة.

وما يثار من كلام عن زيادة الهجرة أراه من أجل التشجيع على خوض هذه الطريقة الخطرة للتهريب، كما أن من يقول "لا تلوموا من يهاجر بل لوموا من كان السبب" إنما يشجع على الهجرة من خلال إقناع الشباب أنه لا ذنب عليهم إن تركوا الرباط في فلسطين وسعوا للهجرة، فغيرهم سيتحمل وزرهم.

والهدف واضح: تفريغ غزة من أكبر عدد ممكن من السكان، لأن كل فلسطيني على أرض فلسطين هو عبء على الكيان الصهيوني، بالإضافة لتشويه صورة الانتصار الذي حققته المقاومة، وكأنها مسؤولة عن تهجير الناس.

وهنا لا بد من التأكيد على أن الهجرة من غزة من أجل العمل أو الدراسة قديمة، سواء كانت هجرة ضمن السياق البشري الطبيعي أو ناجمة عن وضع غزة الخاص (طبعًا مقابلها نجد هجرة من الخارج إلى غزة وخصوصًا من فلسطينيي سوريا وليبيا وحتى بعض السوريين).

وأي زيادة في حجم الهجرة بعد الحرب الأخيرة لا تتجاوز في رأيي بضع عشرات أو مئات، وهي ناجمة عن ثقافة مادية سلبية وبحاجة لخطة إعلامية لمواجهة حملة الإشاعات هذه.


ويجب النظر إلى الهجرة من غزة في ظل السياق التاريخي لقطاع غزة حتى نستطيع وضع يدنا على الحل السليم، وقطاع غزة تشكل في أعقاب حرب عام 1948م وانهيار الجيش المصري وتكدس أعداد هائلة من اللاجئين في ما عرف لاحقًا بقطاع غزة.

يشكل اللاجئون 70% من سكان قطاع غزة هرب أجدادهم من الموت إليه دون أن يحملوا شيئًا سوى ملابسهم وما خف حمله، وهو قطاع جغرافي ضيق المساحة فقير الموارد الطبيعية، وبالتالي انعدمت الخيارات المعيشية أمام غالبية سكان غزة.

فكانت موارد الحياة في القطاع معتمدة على وكالة الأونروا والتنظيمات الفلسطينية (في وقت لاحق)، وعند الاحتلال عام 1967م استغل الصهاينة اليد العاملة الرخيصة من أجل إدامة الاحتلال والتوسع الاستيطاني.

وكجزء من التنفيس انتقل قسم من سكان غزة للعيش في الضفة وفلسطين المحتلة عام 1948م، ولم أعثر على إحصائيات بخصوصهم لكن أتصور أن هنالك عشرات الآلاف من أصول غزية في الضفة (وربما أكثر).

ساهم هذا الانتقال السكاني في التخفيف من ضغط الحياة الاقتصادية في قطاع غزة، وزيادة الكثافة السكانية الفلسطينية في الضفة وفلسطين المحتلة وهذا ضروري لمواجهة الاستيطان.

لكن الكارثة الكبرى التي جلبتها أوسلو وما بعدها أنه كان بداية الانقسام والفصل بين الضفة وغزة، فحسب الاتفاق كان الانتقال من غزة إلى الضفة (أو العكس) يحتاج إلى إذن من سلطات الاحتلال، وأكثر من ذلك تمنع الاتفاقية سكان غزة من الإقامة في الضفة بصفة دائمة إلا بإذن وتصريح من الاحتلال.

وكان هنالك حملة صهيونية كبيرة بعد بدء تطبيق أوسلو عام 1994م من أجل "تنظيف" الضفة من سكان غزة، فالاحتلال أراد التخلص من سكان غزة لكي يحتفظ بباقي فلسطين، لا أن يأتوا ويعقدوا المشكلة الديموغرافية بالنسبة له.

وفي وقت لاحق (خلال انتفاضة الأقصى) اتخذت سلطات الاحتلال إجراءً آخر وهو منع تغيير عناوين السكن بين المحافظات، حتى لا يقوم ابن غزة بتغيير مكان سكنه إلى أحد محافظات الضفة ويكسب تلقائيًا حق الإقامة.

وفي فترة من الفترات كان حتى تغيير المحافظة بين محافظات الضفة ممنوعًا، وللعلم فقط فصدور أي بطاقة هوية حتى لو كانت بدل هوية تالفة، تحتاج إلى إذن من سلطات الاحتلال الصهيوني، وذلك حتى نعلم كم هي سلطة مزيفة، وكم هي سيادة معدومة، وأن من كان يصفها بسلطة الحكم الذاتي المحدود (أو الناقص) لم يكن يبالغ.

هجرة ابن غزة إلى أي مكان داخل فلسطين (أو أي عربي أو فلسطيني من الخارج إلى الداخل) هو مكسب في الصراع مع الاحتلال، وهجرته إلى الخارج هي خسارة (وإن كانت النوعية التي تلاحق الحلم الأوروبي ليست بتلك الخسارة الهامة فهي لا تصلح للمقاومة والجهاد).

وحل هذه المعضلة لا يكون باستجداء المساعدات لتعمير غزة لأن الاحتلال ليس معنيًا بذلك وسيعارض ذلك، بل يحتاج إلى توزيع عبء مقاومة الاحتلال على كافة قطاعات الشعب الفلسطيني حتى لا نحمل غزة فوق ما تحتمل (وهي فعليًا تحمل اليوم أكثر مما ينبغي بكثير).

ليست هناك تعليقات: