بعد إقرار الدستور التونسي طرح الكثيرون مسألة
تنازلات حركة النهضة وانحنائها أكثر من مرة لتفادي الصدام مع القوى العلمانية،
وإلى أي مدى يمكن أن نقول أن المشروع الإسلامي لحركة النهضة قد نجح في ظل هذه التنازلات
المتتالية.
وتأتي هذه التساؤلات بعد علامات الاستفهام التي طرحت
حول التجربة التركية والهزات العدة التي تعرض لها أردوغان، وافتعال الأزمات
المتتالية له ولحزبه ابتداءً من مظاهرات ميدان جيزي وليس انتهاءً بملفات الفساد،
وذلك ثمنًا لخروجه عن الخطوط الحمراء المرسومة غربيًا.
حيث يسأل البعض عن جدوى التنازلات الكبيرة
والتنكر للطرح الإسلامي ما دام في نهاية المطاف لن يقبل كل ذلك وستلاقي تجربة أردوغان
كل هذه الحرب الشعواء؟
التجربة التركية:
البرلمان التركي |
فيما يتعلق بتجربة أردوغان فصحيح أن حزب العدالة
ليس إسلاميًا، إلا أن أصول القائمين عليه إسلامية، وجاء أردوغان بتعريف للعلمانية
لا يراه يتعارض مع الإسلام (مع تحفظي على الاسم والمسمى)، فهو لم يتبرأ من خلفيته
الإسلامية بل يرى الطريق الجديدة التي سار بها امتدادًا لما سبق وتطورًا طبيعيًا
له، لذا سأستخدم مسمى "ما وراء الإسلامية" لأصف التجربة التركية.
وكما يقولون أهل مكة أدرى بشعابها، والقاعدة
المتدينة في المجتمع التركي تنتخب حزب العدالة في كل انتخابات، فهل يعقل أن تنتخب
علمانيًا حقيقيًا بدلًا من حزب يعبر عن تطلعاتها الإسلامية؟ وخاصة أن هنالك بدائل
إسلامية موجودة مثل حزب المرحوم أربكان.
ومن الناحية الأخرى هنالك الحرب المستمرة منذ
عشرة أعوام ويخوضها العلمانيون ضد أردوغان فلماذا يتمسكون بهذا العداء الشرس إن
كان تم تدجين الرجل وحزبه ضمن المنظومة العلمانية؟
أردوغان: دعم غير محدود لأنصار الشرعية في مصر |
وكما يقولون أيضًا قل لي من أصدقاؤك أقل لك من
أنت، انظروا لقائمة حلفاء أردوغان ممن دعموه في أشد الأوقات؟ انظروا لزوار تركيا
من أحزاب وتنظيمات إسلامية وإخوانية، انظروا لحجم الدعم المقدم لأنصار الشرعية في
مصر وتجاوز تركيا للأعراف الديبلوماسية في سبيل ذلك.
أما التجربة التونسية فمرجعية حركة النهضة
الإسلامية أكثر وضوحًا وصريحة مهما تكلم البعض عن علمانية مستترة تنسب للغنوشي.
أهداف المشروع الإسلامي:
لو استعرضنا الأهداف بعيدة الأمد التي يوجد
عليها شبه إجماع بين الإسلاميين فيمكن تلخيصها: بتحكيم الإسلام في حياة الناس
الخاصة والعامة، وإعادة الاستقلال السياسي والاقتصادي والعزة والرخاء للأمة
الإسلامية، ويندرج تحتها أهداف فرعية مختلفة.
والسؤال المطروح الآن إلى أي مدى خدمت التجربتين
في تونس وتركيا المشروع الإسلامي.
ما يجمع التجربتين هو حرصهما على الإصلاح من
داخل النظام العلماني الموجود، والذي فرضه الغرب وتحرسه النخبة المتغربة في
بلداننا الإسلامية، وفي سبيل ذلك قدمت التجربتين تنازلات كبيرة لا تقبل بها أغلب
الحركات والجماعات الإسلامية، مع فارق أن تجربة أردوغان اعتمدت على براغماتية
وذرائعية عالية (وربما تقية سياسية مفرطة إن أردنا إحسان الظن)، بينما تجربة
الغنوشي قائمة على رؤية جديرة بالاستفادة منها حول مفهوم التغيير بالتدرج.
ملاحظات لا بد منها:
وقبل أن نمضي من الضروري التأكيد على أن تحكيم
الإسلام في حياة الناس لا يقتصر على تطبيق الحدود والأنظمة القضائية، كما لا يقتصر
على السلوكيات الأخلاقية للأفراد، ومن الضروري أيضًا التأكيد على أن تحقيق المشروع
الإسلامي ليس مقتصرًا أو حكرًا بيد الدولة، والكثير من الأمور لا حاجة للدولة من
أجل تحقيقها؛ مثل الحجاب أو إطلاق اللحى.
وأخيرًا من الضروري أن تكون هنالك قاعدة
اجتماعية صلبة تحمل المشروع الإسلامي على أكتافها حتى يدوم ويحقق أهدافه.
ولهذا فشلت تجارب إسلامية عديدة لأنها أغفلت هذه
الجوانب، ولنا في السودان أكبر مثال عندما أعلن عن تطبيق الشريعة مرتين؛ أيام جعفر
النميري وأيام عمر البشير، لكن لم يتغير الكثير وبقيت ممارسات غير إسلامية مثل
الفساد والمحسوبية والرشوى مسيطرة على الدولة.
ومثل السودان: الباكستان والسعودية وطالبان
والكيانات المختلفة التي أقامتها القاعدة، كله تطبيق مجتزأ للإسلام بدون قاعدة
اجتماعية صلبة تؤمن به وتحمله، فكانت مجرد شكليات في أحسن الأحوال وفي أسوئها كان
إساءة للإسلام باسم الإسلام.
وهنا أستذكر ما قاله رئيس جزر القمر السابق أحمد
سامبي، وهو ذو الخلفية الإسلامية، عن سبب عدم إعلانه تطبيق الشريعة الإسلامية،
فقال أن تطلعات الناس عالية تجاه الإسلام وأنه لو أعلن عن ذلك، وفي نفس الوقت هو
عاجز عن تحسين ظروفهم الحياتية أو معالجة مشاكلهم المختلفة، فسيكون فشلًا للمشروع
الإسلامي، فقبل أن تعلن عن تطبيق الشريعة يجب أن تكون هيأت له.
الغنوشي: مدرسة فكرية يجدر الاستفادة منها |
وهذا هو مشروع الغنوشي القائم على تهيئة المجتمع
قبل أي شيء آخر، وهو برأيي الفهم الأصح لمنهج الشهيد حسن البنا، فالتغيير لا يفرض
من أعلى بل من الأسفل، وهنا قد يطرح البعض سؤالًا هامًا: لماذا يحرص الغنوشي على
المشاركة في الحكم إن كان التغيير يجب أن يأتي من الأسفل؟
والجواب ببساطة: من أجل حماية عملية التحول، وهي
عملية لا تأتي في يوم ولا شهر ولا سنة بل تحتاج لسنوات طويلة، وقد شهدنا أنظمة
الاستبداد في تونس وغيرها كيف كانت تحارب أشكال التدين كافة، فكيف سيكون هنالك تغيير
من الأسفل إن كانت السلطة تمنع ذلك؟
التجربة المصرية:
ولعل ما دعا الكثيرين للتشكيك بالتجربتين
التونسية والتركية هو ما حصل في مصر، عندما حاول الإخوان التغيير من بوابة الإصلاح
فكان الانقلاب في وجههم، ليؤكدوا على أن المنظومة العلمانية التابعة للغرب ستمنع
أي تغيير في بلداننا، وبالتالي فالإصلاح من داخل المنظومة هو مشروع فاشل، فما أن
تبدأ باختراق الخطوط الحمراء ستبدأ العراقيل والعقبات تظهر في وجهك، وقد رأينا ذلك
في الانقلاب ضد مرسي، وفي الهزات التي تعرضت لها التجربتين التونسية والتركية.
وفيما يتعلق بالتجربة المصرية فأرى أن سبب
سقوطها السريع هو أن الإخوان أرادوا نتائجًا ثورية باستخدام أدوات إصلاحية،
فاستعجلوا التغيير بدون اتخاذ الإجراءات اللازمة (الثورية) لحماية هذا التغيير،
فلو أرادوا اتخاذ الأدوات الإصلاحية كان الأجدر بهم أن يسايروا الدولة العميقة وأن
يدخلوا في عملية تغيير بطيئة وطويلة (كما التجربة التركية)، ولو أرادوا نتائج
سريعة وثورية كان الأجدر بهم اتباع مسار ثوري صدامي على طول الخط ضد الدولة
العميقة.
أين انجزت التجربتان
التونسية والتركية؟
لذلك لا مقارنة بين التجربة المصرية والتجربتين
في تركيا وتونس، ومن الجيد أن نتذكر أن محاولات الانقلاب على أردوغان وحكم النهضة
خلال العام الأخير انتهت بالفشل، وهذا لأن في كلتا التجربتين كان هنالك إتقان
للعبة التوازنات والتحالفات مع قسم من الأطراف غير الإسلامية، واستغلال ذكي
للثغرات الموجودة في المنظومة العلمانية المتغربة، فالعلمانيين والمتغربين في
عالمنا الإسلامي ليسوا كتلة صماء ولا يفكرون بنفس النمط ولا يتحركون بنفس النفس
والتوجه، بل هنالك تناقضات أجاد أردوغان والغنوشي اللعب عليها.
وهنالك بالطبع التنازلات الكثيرة التي قدمت في
التجربتين (في حالة أردوغان قدمها منذ اليوم الأول وفي حالة الغنوشي وتونس قدمت في
الدستور التونسي والحكومة الأخيرة)، وهنا يُطرح سؤال مهم: هل الغاية هي الوجود في
السلطة؟ وأين المشروع الإسلامي؟ وأين القيم الإسلامية؟ وإلى متى الاحتكام لقواعد
لعبة يضعها الغرب ويحميها العلمانيون؟
مثلما أسلفت الذكريجب أن ننظر إلى المشروع
الإسلامي بشكل أوسع من مجرد قوانين وقواعد أخلاقية (بمفهومها الضيق)، هنالك مكافحة
الفساد وهو مشروع أردوغان في بداية حكمه، ألا يعتبر هذا جزء من تحكيم شرع الله؟ وهنالك
فتح الباب للعمل الخيري والتطوعي الإسلامي في تركيا وفي تونس، أليس هذا إحياءً
لقيم إسلامية مفقودة؟
وهنالك نشر القيم الإسلامية بين عامة الناس في
ظل وجود قسم كبير من مجتمعاتنا معادية لهذه القيم نتيجة لتربية سنوات طويلة تحت ظل
أنظمة حكم معادية للإسلاميين، ألا يحتاج نشر هذه القيم إلى وقت؟ والأهم ألا يحتاج
ذلك إلى نظام حكم يحمي الدعاة والملتزمين دينيًا؟
هنالك فرق بين أن ترسخ أقدامك من أجل مصلحة
شخصية وذاتية، وبين أن ترسخ أقدام مشروعك في الأرض، وقد تقدم تنازلات في أمور
كثيرة من أجل اللعب على تناقضات الطرف الآخر، لكن هدفك هو تمكين مشروعك الإسلامي
لتنطلق بعدها وتحقق كل ما تريد.
وهنا أستذكر عندما فاز أردوغان أول مرة في الانتخابات
عام 2003م، وحاول تمرير قانون السماح بالحجاب في الجامعات والمؤسسات العامة، كيف
ثارت ثائرة العلمانيين وكيف انشق حزبه وخرج منه من اعتبروه خائنًا للعلمانية، وكيف
أجبر على التراجع عن القانون، بل وأصبحت الجامعات أكثر تشددًا في حظر الحجاب.
مرت السنوات ومكّن أردوغان لنفسه ثم أعاد تمرير
القوانين ذاتها الواحدة تلو الأخرى، وحقق ما كان لا يجرؤ عليه في أيامه الأولى،
ألا يعتبر ذلك نجاحًا في التدرج؟ لماذا نفترض أن تدرجه سيتوقف عند حد معين فيما
التجربة تشير إلى عكس ذلك؟
أما التجربة التونسية فما زالت في بدايتها ومن
المبكر جدًا الحكم على نجاحها في مسار التدرج.
وماذا لو تحول التدرج إلى
مماطلة؟
ولعل المحذور الأكبر هو تحول فكرة التدرج إلى
مماطلة وتسويف، أو أن يستمرئ أهل المشروع الوضع المؤقت فيصبح دائمًا، أو تكون
مدخلًا لطرح أفكارًا تميع الدين، وأنا شخصيًا تفزعني آراء البعض الذين يأخذون من
التجربتين (وخصوصًا التركية) حجة وذريعة لعلمنة صريحة (كما يفعل خالد الحروب)، أو
تمرير أفكار علمانية وتغريبية بدعوى الحداثة والتكيف مع العالم الخارجي.
فالمطلوب هو مسار يبدأ بتمكين التجربة الإسلامية
في المجتمع وفي الدولة، والتدرج بفرض ما يمكن فرضه من قيم وأحكام إسلامية، وهذا
ليس حكرًا على تونس وتركيا، وهنا استذكر حادثة حصلت أمامي منذ سنوات عندما تكلم
أحد الشباب أمام أحد قيادات حماس عن قاعة أفراح وما تبثه من أغاني واختلاط محرم.
فأجابه أن نفس القاعة حاول البعض استعمالها من
أجل التدريب على الرقص والغناء، فتوجهوا باسم أهالي الحي وضغطوا على صاحبها حتى
تراجع، أما الأفراح فهذه مما عم بها البلاء لا تستطيع الدخول بصدام مفتوح مع
المجتمع من أجلها، وإنما تعمل على تغيير قناعات الناس وبعدها تبدأ بالمطالبة بفرض القيم
الإسلامية.
فالحركة الذكية هي التي تتحسس واقعها وتتقدم حيث
كان ممكنًا التقدم، وفي حال وجدت عوائق تفكر بطرق لإزالة هذه العوائق، من يدخل في
معركة خاسرة وغير محسوبة مخطئ، ومن يستسلم للعوائق والحدود أيضًا مخطئ.
وهنا يأتي دورنا كرأي عام إسلامي لنراقب أداء
هذه التجارب المختلفة فعندما نرى تلكؤ في تطبيق الشرع، أو استرخاءً بالتقدم في
المشروع الإسلامي نقف وننتقد.
وتلعب التيارات المختلفة داخل المشروعين التونسي
والتركي (وغيرهما) دورًا هامًا بمحاربة من يحاولون تمييع الرسالة الإسلامية أو يتراخون
عن تأديتها.
الخاتمة:
هنالك فرق بين من يتدرج فعلًا وعينه على المشروع
الإسلامي الكبير، وبين من يريد التكيف مع الواقع السيء والقبول به تحت مسمى
إسلامي، ودورنا هو دعم النموذج الأول ومحاربة النموذج الثاني.
وفي الختام لا بد من التأكيد على أن لكل بلد
خصوصياته وظروفه التي تميزه عن غيره، كما أنه لا توجد أي وسيلة مقدسة، فقد يزاوج
البعض بين الأسلوب الإصلاحي والثوري، وقد يتبع آخرون أسلوبًا ثوريًا خالصًا، وربما
يرى طرف ثالث أن يتكئ كثيرًا على الخيار الإصلاحي وقليلًا على النهج الثوري، وكل
شيء يخضع للتجربة والتقييم، فما ثبت فشله يجب إعادة تقييمه ودراسته لتصحيح المسار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق