بداية لا بد من التنويه أن الحديث عن انتفاضة ثالثة لا
يعني شكلًا محددًا من أشكال الانتفاضة، وإنما أرمز بها لانفجار الوضع في الضفة
الغربية سواء من خلال المقاومة الشعبية أو المسلحة، من خلال التنظيمات الفلسطينية
أو الأفراد أو الجماهير العريضة، وذلك حتى نكون على بينة من المقصود بمصطلح
الانتفاضة الثالثة خلال المقال.
حالة المقاومة في الضفة العام الماضي:
من مواجهات العام الماضي بعد استشهاد ميسرة أبو حمدية |
يمكن رصد بسهولة وجود تغيرات على الأرض في الضفة الغربية
بالشهور الأخيرة، وتحديدًا منذ حرب حجارة السجيل على غزة أواخر عام 2012م، والتي
أعادت صياغة أولويات الشارع الفلسطيني وساهمت بإعادة توجيه البوصلة باتجاه
الاحتلال، ونقل اهتمام القاعدة الفتحاوية من الحرب الشعواء ضد حماس إلى خندق
المواجهة مع الاحتلال.
تلت ذلك عدة موجات للمقاومة الشعبية بعد استشهاد عرفات جرادات
في السجن أواخر شهر شباط (2) العام الماضي، وبالمناسبة هو كان معتقل بتهمة إصابة
مستوطن بإعاقة نتيجة رشق سيارته بالحجارة خلال الحرب على غزة، تلتها موجة بعد
استشهاد ميسرة أبو حمدية في السجن (أيضًأ) في شهر نيسان (4).
بشير وعودة الحروب منفذي عملية قتل العقيد المتقاعد في الأغوار الشمالية |
إلا أن الطفرة الحقيقية كانت بعد عدة عمليات أواخر شهر
أيلول (9) وموجة مظاهرات في ذكرى انتفاضة الأقصى، لتدشن بعدها سلسلة عمليات مقاومة
فردية تنوعت بين الطعن بالسكاكين وإطلاق النار وعمليات الجرافات والعبوات الناسفة.
وشهد شهر تشرين ثاني (11) وقوع 167 عملية ضد الاحتلال
(تتراوح بين إلقاء الحجارة والعبوات الناسفة وإطلاق النار والزجاجات الحارقة)،
مقابل 99 عملية في شهر أيلول، وهي تشير إلى تواصل الطفرة في العمل المقاوم وزيادة
زخمها.
ويمكن بسهولة رصد ازدياد عمليات إلقاء الزجاجات الحارقة
خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، بحيث باتت واقعًا شبه يومي، وهذا ليس عبثًا بل يأتي
من قناعة مترسخة بأن وسائل المقاومة الأقل "عنفًا" ليست مجدية وأنه يجب
استخدام وسائل مقاومة أكثر عنفًا، والزجاجة الحارقة هي أسهلها من حيث الإعداد
والتنفيذ وأكثر أمنًا من بعض الوسائل مثل الطعن بالسكاكين.
ويعطينا عدد المعتقلين مؤشرًا على حجم المقاومة، فكلما
زادت المقاومة ازدادت عمليات الاعتقال، وشهد العام 2013م اعتقال حوالي 3900 فلسطيني
(98% منهم في الضفة والقدس) وذلك بزيادة 1.5% عن عدد المعتقلين عام 2012م، وبزيادة
قدرها 37.5% مقارنة بالعام 2011م، لنرى هنا أن العام المفصلي هو عام 2012م.
لكن النتائج الأقوى بدأت مع نهاية عام 2013م؛ وبالتحديد
بعد ثلاث عمليات أواخر شهر أيلول: اختطاف جندي وقتله في قلقيلية وقنص جندي في
الخليل وطعن الطفلة المستوطنة في البيرة، وما تلاها من مواجهات في ذكرى انتفاضة
الأقصى، فكانت بمثابة محرك ودافع لآخرين ليقتدوا بهم، ورغم أن الأحوال الجوية
الصعبة أواسط شهر كانون أول الماضي فرضت نوعًا من التهدئة الإجبارية إلا أننا نلاحظ
عودة تدريجية للمواجهات والعمليات وبالأخص الزجاجات الحارقة.
إلقاء زجاجة حارقة على دورية حرس حدود صهيونية |
احتراق سيارة مستوطنين وثلاثة جرحى نتيجة زجاجة حارقة في منطقة بيت لحم في تشرين ثاني الماضي |
إلى أين تسير الأوضاع؟
والسؤال المطروح إلى أين تسير الأوضاع؟ هل من الممكن أن
يتراكم الفعل ويتجاوز ما يطلق عليها "الكتلة الحرجة" وتكون لدينا حالة
يمكن أن نسميها الانتفاضة الثالثة؟
لحد اللحظة التصريحات العلنية لقادة جيش الاحتلال
وأجهزته الأمنية تحاول طمأنة الصهاينة، من خلال وصفها بأنها عمليات ناجمة عن حالة
"هياج عام" (أي التحريض الإعلامي)، إلا أنها برأيهم "موجة إرهاب
بدون بنية تحتية"، فما يطمئنهم أن أغلب ما يجري يأتي ضمن سياق مبادرات فردية،
حتى لو كان للمنفذين انتماءات حزبية إلا أن التخطيط والتنفيذ كله ضمن الدائرة
الفردية.
لكن أجهزة أمن الاحتلال وأجهزة أمن السلطة (والتي أرسل
بعضها إلى الاحتلال تقارير تحذر من فقدان السيطرة على الوضع بالضفة) يدركون أن
العمليات الفردية يمكن بسهولة أن تنتقل نحو العمل المنظم.
لو أخذنا الثورتين السورية والليبية كمثال فرغم أكثر من
أربعين عامًا من قمع العمل الحزبي وغياب ثقافة العمل السياسي الجماعي إلا أن
الثوار استطاعوا تدريجيًا تجميع الجهود الفردية وبناء هياكل تنظيمية أوسع وأكثر
فعالية، فما بالكم عندما نتكلم عن وضع توجد فيه ثقافة حزبية وبقايا تنظيمية يمكن
أن يعاد بناؤها خلال أسابيع قليلة لو توفرت الظروف المناسبة.
تفجير الباص في بيت يام أواخر كانون أول الماضي |
وبالفعل هنالك مؤشرات لوجود بنى تنظيمية تتجاوز الفعل
الفردي، ابتداءً من عملية تفجير تل أبيب خلال حرب غزة (عام 2012م) ومرورًا بمحاولة
تفجير كنيون المالحة العام الماضي، وانتهاءً بعملية تفجير بيت يام أواخر كانون أول
الماضي، فهذه تشير إلى خلايا تعمل بتوجيه وتمويل تنظيمي، لأن حيازة متفجرات
والتدرب على صناعة العبوات وتفجيرها من خلال هواتف نقالة يحتاج لميزانيات وخبرات
لا يستطيعها شباب صغار في مقتبل العمر.
وهنالك تقارير صهيونية عن دور لوزارة داخلية غزة في
توجيه خلايا لحماس في الضفة من أجل العمل المقاوم، وهي لم تتكلم عن تفاصيل لكن
مجرد تهديد وزير الداخلية فتحي حماد يدل على أن هنالك شيء ما يدور بعيدًا عن أعين
الإعلام لكن تحت رصد ومتابعة جهاز الشاباك.
العوامل التي يمكن أن تفجر الانتفاضة الثالثة:
بناءً على ما سبق يمكن القول أن هنالك جو عام يميل نحو
التصعيد مع الاحتلال، وهنالك إيمان أكثر بالمقاومة المسلحة والوسائل الأكثر "عنفًا"،
ورغم الافتقار إلى الهياكل التنظيمية التي يمكن أن تدفع هذا العمل إلى الأمام إلا
أنه يمكن رصد وجود نشاط من نوع ما تحت الأرض، والسؤال ما الذي يمكن أن يحقق النقلة
التالية ويفجر الأمور؟
برأيي هنالك عدة عوامل أجملها بالآتي:
الأول: القاعدة
الفتحاوية هي المفتاح لأن لديها وزن في الشارع ولأنها كانت مغيبة طوال السنوات
التي تلت الانقسام عام 2007م عن ميدان المواجهة مع الاحتلال، مما أتاح للسلطة
والاحتلال الانفراد بحركة حماس.
هذه القاعدة وخصوصًا الأصغر سنًا من طلاب المدارس
والجامعات بدأت بالانخراط النشط في العمل المقاوم الشعبي وتحديدًا منذ أواخر عام
2012م، ولعل الظاهرة الأخطر بالنسبة للاحتلال هي انخراط بعض أبناء الأجهزة الأمنية
في العمل المقاوم ومنهم على سبيل المثال الشهيد صالح ياسين من المخابرات العامة واستشهد
في قلقيلية بتاريخ 19/12/2013م في كمين لقوات الاحتلال، وخلية الجهاد الإسلامي
التي نفذت عملية بيت يام مؤخرًا وكان أحد عناصرها (حمدي التعمري) شرطيًا في السلطة
وملتحق بكلية الضباط في أريحا، واعتقال عدة أفراد من الأجهزة الأمنية لانخراطهم في
أعمال مقاومة خلال الأسابيع الأخيرة.
وهذه تمثل مؤشرات خطيرة مثل فقدان السلطة السيطرة على
عناصرها الأمنية، وعودة التنظيمات لاختراق الأجهزة مثلما كان أيام ياسر عرفات، وهو
ما ينسف كل جهود دايتون وميلر وكل محاولات إعادة بناء الفلسطيني الجديد بالمواصفات
الصهيو – أمريكية.
السلطة حاليًا بالكاد تسيطر على قاعدتها الفتحاوية لكن الوضع
السياسي وتركيبة فتح لا تسمح بذلك على المدى الطويل، والسلطة تستطيع قمع حماس
ومؤيدي حماس لكنها لا تستطيع قمع مناصريها.
الثاني: قدرة حركة حماس
على إعادة إطلاق بنيتها التنظيمية في الضفة وقد تكلمت في مقال سابق عن الأمر
بالتفصيل بعنوان "في ذكرى
انطلاقتها السادسة والعشرين: إعادة إطلاق مشروع حماس المقاوم في الضفة الغربية"،
وهذا مرتهن بتحرر قاعدتها الشعبية من عقدة الخوف من السلطة التي لازمتها بعد
الانقسام، ومرتهن أيضًا بتحول قسم من أنظار جهاز الشاباك نحو مجموعات ملقي الحجارة
والزجاجات الحارقة مما يخفف بعض العبء الأمني عن كاهل حماس.
كتائب القسام استطاعت تاريخيًا النمو والازدهار في ظل
حالات الغليان والمقاومة الشعبية التي كانت تشكل غطاءً أمنيًا لها، سواء في
انتفاضة الأقصى أو الانتفاضة الأولى، لذا لا يمكن توقع عودة قوية للقسام في الضفة
بدون حالة أمنية مشتعلة تفقد الشاباك وأجهزة السلطة القبضة الحديدية المطبقة
حاليًا على رقبة حركة حماس.
والاحتلال والسلطة يدركان تمامًا خطورة عودة القسام للساحة
الضفاوية لذا نرى الضربات المتتالية التي لا ترحم ولا تستريح ضد الأسرى المحررين
من أبناء الحركة وضد نشطاء الكتلة الإسلامية في الجامعات (والتي ازدادت شراسة مع
نهاية الفصل الدراسي الحالي)، لأن هاتين الشريحتين تشكلان عماد أي عمل مقاوم مسلح
أو شعبي تنخرط فيه حماس.
الثالث: المفاوضات بين
السلطة والاحتلال، والصهاينة يتوقعون انفجار الأوضاع بعد فشل المفاوضات في شهر
نيسان (4) المقبل، لأنه بدون أفق سياسي فالسلطة لن تستطيع السيطرة على قاعدتها
الشعبية، ولهذا السبب يتم حاليًا توضيب ما يسمى باتفاق إطار بين السلطة والاحتلال،
الهدف منه وضع خطوط عامة هلامية يفهمها كل طرف كما يريد، وتفرض على السلطة التزامات
جديدة، وليتم بعدها التفاوض على كل شيء من جديد، فلا تفقد السلطة بالتالي الأفق
السياسي ويبقى هنالك شيء تحاول به إسكات جمهورها المستاء.
لكن الوضع في الميدان وعلى الأرض في الضفة يرسل رسائل
على النقيض من ذلك، وما يرسخ تدريجيًا في ذهن الجماهير في الضفة الغربية أن بقاء
الوضع على ما هو عليه سيكون له تبعات كارثية على حياتهم اليومية وسيدفعون ثمنه:
توسع استيطاني، واعتداءات مستوطنين، وتجاوزات قوات الاحتلال، وبالتالي عند لحظة
معينة سيصلون لنتيجة أنه لا خيار لديهم سوى المقاومة؛ ورأينا مثال على ذلك يوم أمس
عندما حاصر أهالي قريوت وقصرة جنوب نابلس مجموعة مستوطنين جاؤوا لتخريب أشجارهم
ومزروعاتهم، وقاموا بضربهم وإصابة عدد منهم بجراح.
الرابع: ربما السؤال
الأصعب المطروح في الساحة الضفاوية وماذا بعد الانتفاضة الثالثة؟ وماذا سيحصل لو
صعدنا عسكريًا أو شعبيًا ضد الاحتلال؟ من الذي يضمن أن لا نسحق ونترك لوحدنا أمام
جيش الاحتلال؟ وفي الذهن تجربة انتفاضة الأقصى واجتياحات عام 2002م.
في رأيي أن تغير الوضع العربي وتحديدًا فشل الانقلاب في
مصر سيعطي إجابة مقنعة جزئيًا على هذا التساؤل وسيكسر العائق الأكبر أمام اقتناع
أهل الضفة بجدوى إشعال انتفاضة ثالثة بكامل عنفوانها وزخمها.
ملحق:
فتح ثغرة في الجدار العنصري بين أبو ديس والعيزرية: أحد وسائل المقاومة المبتكرة |
المستوطنين في قصرة بعد القبض عليهم وإشباعهم ضربًا |
مواجهات الخليل في 25/2/2013
فتح ثغرة في جدار الفصل العنصري بين العيزرية وأبو ديس في 27/9/2013
مواجهات عنيفة في العيزرية 27/9/2013
مواجهات عنيفة في أبو ديس وإلقاء زجاجة حارقة في 29/9/2013
إلقاء زجاجات حارقة في عناتا بتاريخ 27/9/2013
مواجهات أمام سجن عوفر 22/2/2013م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق