الاثنين، 16 ديسمبر 2013

حول إعدام عبد القادر ملا في بنغلاديش




قامت الحكومة البنغالية بإعدام القيادي في الجماعة الإسلامية عبد القادر ملا يوم الخميس الماضي، بعد محاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال حرب انفصال بنغلاديش عن باكستان عام 1971م، وتضمن الاتهامات المسؤولية عن مقتل 350 ألف شخص واغتصاب آلاف النساء وغير ذلك.

فما هي خلفية إعدامه؟ ولماذا اليوم بعد 42 عامًا فطنوا له؟ وهل كان محصنًا طوال هذه السنوات؟ وهل حقًا قامت الجماعة الإسلامية بهذه المجازر أو ساهمت بها؟ سأحاول هنا الإجابة عن هذه الأسئلة.

خلفية تاريخية:

عندما قرر الأنجليز الانسحاب من الهند عام 1947م كان هنالك مطالب لمسلمي الهند بأن تكون لهم دولة خاصة بهم، وكان الاتفاق على أن تكون الأقاليم ذات الأغلبية المسلمة ضمن دولة باكستان والتي جاء اسمها من الأحرف الأولى لهذه الأقاليم: البنجاب والسند وبلوشستان والبنغال وكشمير والأقاليم الأفغانية (أصبح اسم الأخيرة لاحقًا الأقاليم الشمالية ثم خیبر بختونخوا).




ولدت باكستان منفصلة جغرافيًا حيث إقليم البنغال في الشرق وعرف بباكستان الشرقية، وباقي الأقاليم في الغرب وتفصل الهند بينهما، وفي ظل حكم العسكر بقيادة الجنرال أيوب خان ثم يحيى خان انتشر الفساد والقمع في جميع أنحاء الباكستان، بما فيه بنغلاديش التي اجتاحتها فيضانات عام 1970م قتل بها حوالي نصف مليون شخص، واتهمت الحكومة بانعدام الكفاءة بالتعامل مع الكارثة.
 
وفي مثل هذه الظروف تزدهر الأفكار الانفصالية وهي ظاهرة يمكن رصدها بسهولة في عالمنا العربي (أنظروا الأكراد في العراق وسوريا والحوثيين واليمن الجنوبي في اليمن، وبونت لاند وجمهورية أرض الصومال في الصومال)، فحيثما عم الفساد والقهر أو انهارت الدولة وعجزت عن تقديم ما يشعر المواطنين بأنها لهم، يبدأ سكان الأطراف بالتفكير عن ما يميزهم عن باقي سكان الدولة لتكون أساسًا لدعوى الانفصال، ظنًا منهم أن ذلك سيكون خلاصهم والمنقذ لهم.

انفصال بنغلاديش:

مجيب الرحمن قائد الانفصال عن باكستان
تذمر أهل البنغال من سيطرة العسكر لكن حتى لا يكونوا مثل غيرهم من أهل الباكستان، رأت قيادات أحزاب مثل حزب الشعب بقيادة مجيب الرحمن أن المشكلة ليست فقط من حكم العسكر بل أيضًا نابعة من هيمنة أهل أقليم البنجاب (كبرى أقاليم باكستان الغربية)، وأن باكستان ليست إلا بمثابة "مستعمرة" لأهل البنجاب، وبالتالي فالحل يجب أن يكون الانفصال والاستقلال.

واستدلوا بأمور مثل أن البنغال هم أكثر عددًا من أهل البنجاب لكن لا يشاركون في الحكم والقيادة، كما طالبوا باستخدام اللغة البنغالية بدلًا من اللغة الأردية اللغة الرسمية في الباكستان.

وإثر انتخابات عام 1970م وفوز رابطة عوامي (حزب الشعب) بقيادة مجيب الرحمن، حرمه العسكر من تشكيل الحكومة، فقرر الانفصال عام 1971م وتأسيس دولة بنغلاديش وهذا لم يعجب طبعًا لا حكام الباكستان ولا قسمًا من الشعب البنغالي، وإن كان هذا القسم يمثل الأقلية في جو النعرات القومية والتحريض على الظلم (والذي يفترض أن سببه "إخوانهم" في الباكستان وليس العسكر)، وكان على رأس المعارضين الجماعة الإسلامية والتي كانت امتدادًا للجماعة الإسلامية في الباكستان والتي أسسها المرحوم أبو الأعلى المودودي في بداية الأربعينيات.

كانت معارضة الجماعة الإسلامية للانفصال ليس انطلاقًا من كونها جزء من النظام الحاكم، وإنما انطلاقًا من إيمانها بالوحدة الإسلامية (مثل كافة الجماعات والتنظيمات الإسلامية)، وأن الأصل هو أن تتوحد الدول الإسلامية لا أن تتفكك، كما أنها أدركت أن النزعة القومية البنغالية ليست الحل والمشكلة ليست مشكلة قومية أو عرقية.

إلا أن معارضة الجماعة الإسلامية للانفصال لم يترجم إلى مشاركة بالحرب التي اندلعت عقب الانفصال والتي تدخلت فيها الهند عسكريًا إلى جانب الانفصاليون، وقتل في الحرب كما يقال ما بين 30 ألفًا وثلاثة ملايين، وهي أرقام متضاربة بشكل صارخ وإن كان الأكثر تداولًا هو 350 ألفًا، واقترف الجيش الباكستاني مذابح وجرائم من بينها اغتصاب الآلاف وعشرات الآف من النساء كما تقول روايات الانفصاليين، وانتهت الحرب بانفصال دولة بنغلاديش بعد حرب دامت تسعة شهور، وبدعم مباشر من الجيش الهندي.

لماذا لم يحاكم قادة الجماعة الإسلامية في وقتها؟

رغم أن الجماعة الإسلامية وقفت إلى جانب المنهزم فقد كان من الممكن محاكمة قادتها بعد انتهاء الحرب بتهمة المشاركة في جرائم الحرب، علمًا بأنه تم في حينه محاكمة مئتين من قادة الجيش الذين حاربوا ضد انفصال بنغلاديش ثم أعفي عنهم ضمن اتفاق بين الباكستان والهند وبنغلاديش.

لكن قادة الجماعة الإسلامية لم يحاكموا ولم يتهموا وقتها، وليس ذلك فحسب بل سمح للجماعة المشاركة بالحياة السياسية البنغالية وشاركت بالانتخابات في الفترات التي لم يحكم بها العسكر بنغلاديش كما شاركت في تشكيل الحكومة البنغالية وكان لها وزراء.

والواقع أن الاتهام الوحيد الذي وجه للجماعة الإسلامية طوال السنوات الأربعون الماضية هي أن وقوفها إلى جانب الوحدة كان دعمًا أخلاقيًا للعسكر الباكستانيين وغطاءً سياسيًا لهم ليرتكبوا المجازر، وهذه لو صح أنها خطأ أو تهمة، فهي خطأ سياسي يحاسبون عليه من خلال صندوق الاقتراع وليس جريمة جنائية يقدمون بسببها إلى المحاكمة، ولهذا لم يكن من الأصل واردًا محاكمتهم وإنما هذه مجرد واجهة لجريمة حيكت بليل.

لماذا الآن؟

بعد ما سميت بحرب استقلال بنغلاديش عام 1971م ووصول مجيب الرحمن وحزبه رابطة عوامي إلى الحكم، سعى مثل كافة القوميين اليساريين إلى الاستبداد بالحكم وبناء نظامًا اشتراكيًا قائم على الحزب الأوحد، وانتهى الأمر بانقلاب عسكري عليه حيث قتل هو وأكثر أبناء عائلته.

ثم جاء سلسلة من القادة العسكريين أبرزهم الجنرال ضياء الرحمن والذي اغتيل هو أيضًا، وانتهى عهد العسكر مع الجنرال حسين أرشاد، والذي سلم الحكم إلى انتخابات ديموقراطية بضغط من الغرب.

الشيخة خالدة ضياء
تنافس على الحكم منذ ذلك الحين حزبين رئيسيين: رابطة عوامي والذي تزعمته ابنة مجيب الرحمن الشيخة حسينة واجد، والحزب الوطني بقيادة أرملة ضياء الرحمن الشيخة خالدة ضياء، فيما كانت الجماعة الإسلامية تحصل على المرتبة الثالثة في أغلب الانتخابات التي جرت، بالإضافة لأحزاب أصغر حجمًا.

الشيخة حسينة واجد
ورغم الانتقال الديموقراطي إلا أن التركيبة الفاسدة للدولة البنغالية والتي أسس لها العسكر بقيت مستمرة ومتغلغلة، ورغم ذلك فقد بقيت أحزاب الفساد وورثته حزبي الشيخة خالدة ضياء والشيخة حسينة هي المهيمنة، بقوة المال وبقوة العلاقات التقليدية التي تربط نظام الحكم (أو الدولة العميقة باللغة السياسية المصرية) مع القوى الاجتماعية المختلفة، وهذه معضلة نشهد مثيلًا لها في عالمنا العربي.

ورغم أن حكومة انتقالية محايدة خلال عامي 2007م و2008م حاولت محاكمة الفسادين ومن بينهم كل من الشيخة حسينة والشيخة خالدة وأقارب لهما وسجنت كل منهما لفترة وجيزة بتهمة الفساد، إلا أن الشيخة حسينة قادت حزب رابطة عوامي إلى فوز ساحق أواخر عام 2008م، وكان من بين برنامجها الانتخابي محاكمة قادة الجماعة الإسلامية بتهمة المشاركة بجرائم الحرب خلال حرب الانفصال.

ومع اقتراب موعد الانتخابات القادمة في الخامس من الشهر القادم، قررت الشيخة حسينة تفعيل مشروعها بمحاكمة قادة الجماعة الإسلامية دون غيرهم بتهمة ارتكاب جرائم حرب لأنهم عارضوا الانفصال بالقول، فيما لن يحاكم الذين اتهموا بالقتل والسلب والاغتصاب، وهذا يذكرنا بالمحاكم الانقلابية في مصر حيث يحاكم الإخوان بتهمة التحريض أما مرتكبي القتل فهم طلقاء أحرار.

تمت محاكمة تسعة من قادة الجماعة الإسلامية بهذه التهمة الوهمية وحكم على ستة منهم بالإعدام وفق قوانين خاصة تم تشريعها من أجلهم، وتم تنفيذ الحكم في عبد القادر ملا (66 عامًا) ليكون البداية، في مخطط من الواضح أنه يهدف إلى إقصاء خصوم سياسيين ربما قادرين على هزيمة الحزب الحاكم في الانتخابات القادمة، خاصة وأنه سبق لتحالف بين الشيخة خالدة ضياء والجماعة الإسلامية وحزبين آخرين أن استطاع هزيمة حزب عوامي والشيخة حسينة.

الخلاصة:

نلمس حالة نموذجية لسيطرة النخب الفاسدة على الحكم، مدعومةً بعائلات الإقطاع السياسي، والتي تتوارث الحكم بناءً على علاقات النسب والدم وليس على الكفاءة أو الأفضلية، كما لاحظنا الدور الكارثي لتدخل العسكر في الحياة السياسية وهي آفة دائمة للأسف.

ومشكلة الجماعة الإسلامية في بنغلاديش كما هي أغلب الدول الإسلامية ليس فقط وجود خصم علماني قذر ومستعد للمضي حتى النهاية من أجل القضاء عليها، بل أيضًا هي مشكلة تغيير المجتمع وإقناع المجتمع بأنه يستحق أفضل من انتخاب حفنة من عصابات مافيا الفساد، وإقناع الناس باتباع العقل لا العاطفة (كما حصل لحظة انفصال بنغلاديش عن الباكستان)، هذه معضلة مزمنة والإجابة عنها ستكون بمثابة الثورة التي تغير وضعنا في العالم الإسلامي بشكل جوهري وملموس.

ليست هناك تعليقات: