كان التوقيع على اتفاق المصالحة في مخيم الشاطئ مفاجئًا للكثيرين، وخاصة
أن قصتنا مع مشوار المصالحة طويلة، وكانت غالب الاتفاقيات والتفاهمات تنتكس إما في
اللحظة الأخيرة قبل التوقيع أو مع الخطوات الأولى للتنفيذ، ولهذا السبب ما زال من غير
المؤكد نجاح المصالحة هذه المرة حيث أننا لم ندخل بعد مرحلة التنفيذ.
ما الذي استجد هذه المرة؟
الشيء المستجد هو تعطل المفاوضات بين السلطة والاحتلال، ومن قراءة نص ما
وقع عليه في غزة فلا جديد تقريبًا، إنما هو إعادة جدولة لاتفاق القاهرة، وذلك
للترتيب من أجل تشكيل حكومة كفاءات انتقالية بعد خمسة أسابيع، ثم انتخابات متزامنة
للمجلس التشريعي والمجلس الوطني والرئاسة، وإعادة تفعيل منظمة التحرير ولجنة
الحريات والمصالحة المجتمعية.
وكالعادة تم القفز عن النقاط المحورية مثل برنامج السلطة والمنظمة في
المرحلة القادمة، والمفاوضات والتنسيق الأمني وشكل المقاومة، وذلك ضمن استراتيجية
تنفيذ ما يمكن الاتفاق عليه حاليًا، وتأجيل ما لا يمكن الاتفاق عليه إلى وقت لاحق.
وعليه فقد تم تأجيل هذه العقد إلى الحكومة الانتقالية والتي ليس من
الواضح شكلها أو تركيبتها أو ضوابطها، وعليه أفهم هجوم الصهاينة والأمريكان على
المصالحة أنه من أجل ضمان أن لا تخرج هذه الحكومة عن المشروع الاحتلالي، وهذا
لمسناه بشكل واضح في تصريح الوزير الصهيوني عوزي لانداو الذي اقترح اشتراط نزع
سلاح الصواريخ من غزة من أجل القبول بالمصالحة والحكومة الائتلافية، ومطالبة وزير
الاتصالات الصهيوني جلعاد أردان بمنع إجراء انتخبات تشارك بها حماس.
ونسأل: هل قطع السلطة للخطوط الحمراء الصهيونية هي مجرد مناورة بسبب فشل
المفاوضات؟ وماذا سيكون موقف السلطة لو عادت إلى المفاوضات؟ وهل السلطة مستعدة
للمضي قدمًا بالمصالحة ودفع الثمن الباهظ نتيجة هذا الخيار؟ وما سيكون شكل
المقاومة بعد سلوك هذا الطريق؟
موقف الاحتلال الصهيوني:
هنالك توجهان داخل حكومة الاحتلال؛ الأول، توجه حزبي البيت اليهودي
وإسرائيل بيتنا، بزعامة وزيري الإسكان (نفتالي بينت) والخارجية (ليبرمان)، وهم
يذهبون باتجاه التصعيد التام مع السلطة.
والتوجه الثاني، يمثله نتنياهو ووزير الحرب موشيه يعالون، ويساندهم قادة
الأجهزة الأمنية وبالأخص جهازي الشاباك والاستخبارات العسكرية، ويقوم على الضغط
الهادئ والمتدرج على السلطة من أجل ضمان عدم خروجها من بيت الطاعة (فهي إلى حد
اللحظة لم تخرج)، ومن أجل تحقيق أحد أمرين: إدخال حماس إلى بيت الطاعة أو إفشال
المصالحة.
والتصريحات العلنية لنتنياهو وغيره التي فيها من التهديد والوعيد، بدون
أن يرافق ذلك إجراءات حقيقية وقوية على الأرض تأتي لأنهم يريدون حرق السلطة أمام
الرأي العام الفلسطيني، بحيث أصبح جليًا من كان يضع الفيتو طوال الوقت بوجه
المصالحة (رغم أننا كنا نقول ذلك دائمًا إلا أن الكثيرين كانوا يقفزون عن هذه
الحقيقة إلى الكلام عن قضايا أخرى).
وبنفس الوقت سيمارس الاحتلال والأمريكان ضغوطات تبدأ ناعمة ثم تتصاعد ضد
السلطة وحركة فتح من أجل دفعها للتراجع عن المصالحة (أو دفعها لترويض حماس)، بحيث
لو تراجعت فتح والسلطة عن المصالحة ستكون بصمة الاحتلال واضحة بما يقطع عليها أي
طريق للعودة عن الارتباط مع الاحتلال، وهذا الأسلوب أسميه العمالة عن طريق
التوريط: أي الفضح والحرق الإعلامي وبنفس الوقت استخدام وسائل الترغيب والترهيب
لربطهم بالاحتلال.
موقف السلطة وحركة فتح:
لحد اللحظة لم تتخلى فتح عن استراتيجيتها القائمة على التفاوض مع
الاحتلال والتنسيق الأمني المتواصل معه، والارتباط بأمريكا والأنظمة العربية
التابعة لها، ولهذا سمعنا عباس وغيره من مسؤولي السلطة يؤكدون تكرارًا على أن
المفاوضات لا تتعارض مع المصالحة.
ويبدو لي أن عباس يريد من المصالحة أمرين: الضغط على الاحتلال والأمريكان
أن هنالك بدائل لهم، وبنفس الوقت يعطي رسائل واضحة أنه قادر على ترويض حماس
وإدخالها بيت الطاعة، وبالتالي سيحرص على تجديد التفويض الممنوح له بالتفاوض،
وبذلك يكسب وقتًا للمناورة والمراوغة ولا يقطع شعرة معاوية بينه وبين الاحتلال.
موقف حركة حماس:
لا شك أن حصار غزة وملاحقة حماس في الضفة شكل أزمةً للحركة، وصراعات جانبية
تحرف بوصلتها عن معركتها الأصلية مع الاحتلال الصهيوني، وحتى تحيد عنصر التشتيت
الممثل بفتح والسلطة، كان السعي المتواصل منها للوصول إلى اتفاق مصالحة يخلق شكلًا
من أشكال التعايش مع حركة فتح، ما دام الاتفاق على استراتيجية المقاومة مستحيلًا
في هذه المرحلة.
وحماس قدمت مبادرات عدة من أجل إغراء حركة فتح للقبول بهذا الخيار، إلا
أن الصنارة لم تشبك إلا بعدما فشلت المفاوضات مع الاحتلال، وحماس تواجه معضلة
خطيرة إن لم تنتبه لها فستحرق إعلاميًا وجماهيريًا، وهي أن تستخدم مطية لتمرير
خيار المفاوضات، وأن تتحمل وزرها ووزر كل أخطاء سلطة محمود عباس تحت مسمى التوافق
الوطني.
لذا يجدر بحماس أن تضع خطين أحمرين: الأول هو أنه لا تفويض لعباس أو حكومته
بالتفاوض مع الاحتلال، والتفويض السابق انتهى أمره واليوم واقع جديد، أما الثاني فهنالك
شخصيات تطبيعية قذرة، سيحاول عباس فرضها رغم أنها مكروهة شعبية، ليجعل حكومته مقبولة
صهيونيًا، مثل منيب المصري أو الهباش أو ياسر عبد ربه، هذه الأسماء يجب أن ترفض رفضًا
باتًا.
ويبدو لي أن حماس من خلال التصعيد الميداني منخفض الوتيرة في غزة مع
الاحتلال، ومن خلال بعض التصريحات لقادتها ومسؤوليها الرافضة للعودة إلى
المفاوضات، تريد أن تحرق ورقة تدجين حماس، وأن "تورط" السلطة وفتح في
خيار حماس المقاوم، وذلك من خلال تعطيل المفاوضات مع الاحتلال.
مستقبل المصالحة:
العقبة الأولى أمام المصالحة هي تشكيل الحكومة الائتلافية، والتي بات
واضحًا أن أنظار الاحتلال وأمريكا والاتحاد الأوروبي باتت موجهة إليها، وهنا ربما
سيحاول عباس تمرير بعض العناصر التطبيعية الفاقعة لشراء قبول الأمريكان والصهاينة،
إلا أنه وبكل الأحوال فمصير الحكومة مرتبط بموققف فتح وصمودها بوجه الضغط الصهيو
أمريكي، وبتوفير الدول العربية غطاء لهذه الحكومة، وقد أعلنت قطر ومصر والأردن
وتونس وتركيا ومجلس التعاون الخليجي دعمها للمصالحة، لكن هل سيترجم هذا الدعم إلى
فعل؟
والعقبة التي تلي ذلك هي انتخابات التشريعي والرئاسة والمجلس الوطني،
وكلها أمور قد يستطيع الاحتلال تعطيلها لو أراد ذلك في ظل خوفه من فوز حماس أو
تمرير مواقف مناهضة للاحتلال الصهيوني.
لكن يحسب للمصالحة أن حققت الآتي: أعادت الأمور إلى مربعها الأصلي؛ أي
المواجهة مع الاحتلال الصهيوني، واستطاعت أن تخفف المناكفات الفتحاوية والحمساوية،
بحيث يترك لحماس التركيز أكثر على مشروعها المقاوم، واستطاعت أن تحرج السلطة عندما
كشفت دور الاحتلال الدائم بتعطيل المصالحة.
لست متفائلًا كثيرًا بالمضي قدمًا بتطبيق خطوات المصالحة فحكومة الاحتلال
بالمرصاد، ولو دخلت فتح ميدان المواجهة فسننتقل لمرحلة مواجهة جديدة مع الاحتلال،
لكن حركة فتح لم تبد أي مؤشر على ذلك، والأهم هو حرمان عباس من أي غطاء لمفاوضاته.
وبعد القضاء على عنصر المفاوضات يمكن الانتقال للتنسيق الأمني، وبعدها جر
فتح إلى ميدان انتفاضة فلسطينية ثالثة نرى اليوم ملامحها دون أن تنطلق، ولعل في
انهيار المفاوضات وخطوات المصالحة ما يجر فتح إلى هذه الانتفاضة ووقتها يمكن أن
نراها واقعًا ملموسًا بكل أركانه.
وفيما لو ضعفت فتح وتراجعت أمام الضغوط الأمريكية والصهيونية فحينها تكون
الأمور قد وضعت في نصابها الصحيح، وتكون معركة مبادئ وليست معركة
"كراسي" كما كان الإعلام يصوره طوال الوقت، والأهم أن تستمر حماس وغيرها
بتطبيق برنامجها لمقاومة الاحتلال، بدون الارتهان لمزاجية ومواقف فتح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق