مرت علينا قبل يومين الذكرى السادسة والستون لمجزرة دير ياسين، والتي لم
تكن أول مجازر الاحتلال خلال حرب النكبة ولا آخرها ولا حتى أكثرها وحشية، لكنها
أبرزها وأشهرها.
ما يلفت نظري دومًا في هذه المجزرة أنها ارتكبت قبل خروج البريطانيين من
فلسطين، وقبل إعلان قيام دولة "إسرائيل"، وقبل دخول الجيوش العربية إلى
فلسطين، وأنها كانت ضمن سلسلة أعمال قتل وتطهير كانت تقوم بها العصابات الصهيونية
منذ قرار التقسيم بأواخر شهر تشرين ثاني (11) عام 1947م.
تفجير فندق الملك داود عام 1946 مؤشر مبكر على القدرات التدميرية للعصابات الصهيونية |
من بين أبرز المحطات لتلك الفترة تفجير العصابات الصهيونية مبنى السرايا
الحكومي في يافا ومقتل أكثر من مئة أغلبهم فلسطينيون وذلك في شهر كانون ثاني (1)
عام 1948م، ومحاصرة يافا والبدء بتطهير أكبر تجمع سكاني فلسطيني (كان يسكن يافا
وقتها أكثر من مئة ألف يشكلون ما يقارب 10% من الشعب الفلسطيني)، كما شهدت العديد
من القرى في المناطق ذات التواجد اليهودي أعمال قتل وتهجير.
ورغم وضوح المشهد إلا أن ما كان يدور في عقل عامة الناس وقادتهم بتلك
الأيام هو: أنها مجرد عصابات وستأتي الجيوش العربية وتسحقها بسهولة تامة،
وبريطانيا لن تجازف بعلاقتها مع العرب من أجل المشروع الصهيوني (متناسين أن
بريطانيا وفرت الدعم والحماية والتسهيلات بكافة أشكالها وألوانها لهذا المشروع منذ
اليوم لاحتلال فلسطين).
فيما كان الفلسطينيون محرومون من امتلاك السلاح وتركوا يواجهون العصابات
الصهيونية بأقل القليل ولم يساندهم في هذه المرحلة من الحرب سوى أعداد قليلة من
المتطوعين العرب أغلبهم من جيش الإنقاذ، وبعض التشكيلات العسكرية الفلسطينية
أبرزها وأهمها الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني.
وفي كل الأحوال لم يكن تسليح الفلسطينيين ليجاري تسليح اليهود الذين
كانوا يملكون جهازًا شبه عسكري يعمل بشكل رسمي تحت مسمى حرس المستوطنات، وتعداده
بضعة عشرات الآلاف من المقاتلين ورجال الأمن، بالإضافة لعصابة الهاجانا التي تسلحت
بعتاد تحت سمع البريطانيين بل وبدعمهم في بعض الأحيان، وعصابات الأرجون وشتيرن
الأصغر حجمًا.
الفيلق اليهودي في الجيش البريطاني |
كما استفاد الصهاينة من الفيلق اليهودي بالجيش البريطاني الذي انضم أغلب
أعضائه للعصابات الصهيونية مستفيدين من خبرتهم العسكرية بالحرب العالمية الثانية،
ولقد وصل تعداد العصابات الصهيونية بمختلف مسمياتها إلى ما لا يقل عن ستين ألف
مقاتل (وبعض المصادر تتكلم عن مئة ألف مقاتل).
في مقابل ذلك فلم يتجاوز تعداد "الجيوش" العربية والمتطوعين
العرب الخمسة وثلاثين ألف مقاتل، هذا من ناحية التعداد أما من ناحية التسليح
فالفجوة كانت أكبر وأكبر، ورغم كل هذه الهوة في التسليح والعتاد والاستعداد كان
العرب يمنون أنفسهم بهزيمة سهلة للصهاينة، ولا أدري على أي أساس!!
فمن شاهد المجازر الوحشية التي ارتكبوها، وكيف استطاعت الصهيونية طرد
أعدادًا كبيرة من الفلسطينيين من بيوتهم قبل 15 أيار (5) عام 1948م (وهو الموعد
الذي دخلت فيه الجيوش العربية إلى الميدان)، حيث أن أكثر من نصف اللاجئين
الفلسطينيين تم تهجيرهم قبل هذا التاريخ، ومن يحسب تعداد وتدريب وتسليح الجيوش،
كان يجب أن يرى حجم التحدي الكبير الذي يواجه العرب، مع ذلك اعتبروا الحرب مجرد
مشوار نقضي على الصهاينة ويا دار ما دخلك شر.
كانت الآمال الكبيرة المعقودة آمالًا وهمية، وعندما حصلت النكبة وبدأ
الناس يستخلصون العبر استخلصوها بطريقة خاطئة تمامًا، لأن الأساس الذي بنوا عليه
كان خاطئًا، فألقيت التهمة على "الخيانة" و"الأسلحة الفاسدة"،
وظن أغلب الناس أنه بمجرد الإطاحة بالحاكم الفلاني والملك العلاني تعود الأمور إلى
نصابها.
طبعًا الأمور تطورت من تراجع إلى تراجع، وضاعت باقي فلسطين، ونحن نظن أن
المشكلة في سين وصاد من الناس، بينما هي أعمق من ذلك بكثير لكن مشكلتنا الأكبر
أننا لا ننظر إلى الواقع بل نحلق في عالم الأحلام كثيرًا.
ما بين أوهام الأمس وأوهام اليوم:
وما يقلقني بشدة هو انتقال عالم الأحلام معنا جيلًا بعد جيل دون أن نتعلم
الدرس، نحرر فلسطين في خيالنا ألف مرة، فيما الاحتلال يعمل على الأرض ويتقدم ويحقق
الانتصارات، حتى إذا اصطدمنا بجدار الواقع كان الانهيار والإحباط ورفع البعض الراية
البيضاء "فلا قبل لنا اليوم ببني إسرائيل"، فيما انصرف آخرون إلى أحلام
جديدة يحررون فيها الأندلس والشيشان وباقي بلاد المسلمين المنهوبة بعدما حرروا
فلسطين بأوهامهم.
وسأضرب بعض الأمثلة على الأوهام التي نعيشها هذه الأيام لعل وعسى نستيقظ
ونتعلم الدرس:
أولًا، المبالغة في قوة كتائب القسام بغزة: لا شك أن كتائب
القسام هي معجزة ربانية، فأن تصنع قوة عسكرية تمتلك الصواريخ القادرة على الوصول
إلى تل أبيب، مبتدئًا من الصفر (من لا شيء) وتحت سطوة الاحتلال وملاحقته الدائمة
وقبضته الأمنية الخانقة، لهو أمر غير ممكن بدون ما أطلق عليه رعاية ربانية خاصة.
ورغم ما حققته كتائب القسام إلا أن الشوط ما زال طويلًا أمامها، ويقلقني
التقييم المبالغ فيه جدًا عند الكثير من الناس لقوة القسام، والناجم إما عن آمال
وأحلام الكثير من محبي القسام أو تقارير ومقالات خبيثة تضخم عن عمد من قوة القسام
حتى تحمله ثوبًا أكبر (مثل من اختلق خبر قيام القسام بحفر نفق بين تونس والجزائر).
دمار هائل في غزة يعكس الفجوة الضخمة في قوة النيران |
القسام وكافة كتائب المقاومة لا يستطيعون حشد أكثر من عشرين إلى ثلاثين
ألف مقاتل (على أكثر تقدير) بينما كتيبة غزة التابعة لجيش الاحتلال، والتي ترابط
على حدود غزة بالوضع الطبيعي يصل تعدادها إلى عشرين ألف جندي، ويمكن لجيش الاحتلال
حشد كتيبة أخرى بنفس العدد بكل سهولة وقت التصعيد، فيما يبلغ تعداد القوات
النظامية في جيش الاحتلال حوالي 160 ألف جندي، ويمكنهم حشد ما يصل إلى 400 ألف
مقاتل (بمن فيهم قوات الاحتياط) يعني حوالي ثلث تعداد سكان غزة (بما فيه نساء
وأطفال غزة الذين يشكلون ثلاثة أرباع سكان القطاع).
طبعًا عندما نتكلم عن الطيران فلا مقارنة على الإطلاق وأقصى ما تمكن منه
القسام هو إسقاط بعض طائرات الاستطلاع وإخافة الطيران المروحي والحربي وإجباره على
التحليق على ارتفاعات عالية نسبيًا.
ما يعوض القسام والمقاومة في غزة عدة أمور: يتخذون مواقع دفاعية وللمدافع
أفضلية على المهاجم، ويستخدمون تكتيكات حروب العصابات والأنفاق من أجل تفادي
الخسائر، بالإضافة لوضع إقليمي ودولي يمنع الصهاينة من ارتكاب مجازر ضخمة في غزة
(يسمح للصهاينة وفق هذه المعادلة قتل بضع مئات وليس عشرات الآلاف).
لذا فالكلام عن جيش البمبرز وعن أنه لن يستطيع احتلال غزة، والسؤال لماذا
لا يبادر القسام ويهاجم داخل فلسطين المحتلة عام 1948م، والتساؤل الاستنكاري
"إلى متى مرحلة الإعداد والاستعداد"، كلها مبالغات تضر ولا تنفع، وتلقي
على القسام ثقلًا فوق طاقته، وتمني الناس أمنيات غير واقعية.
جميل وصف جيش الاحتلال بالبمبرز لكن لنميز بين ما يقال في الحرب
الإعلامية وبين الواقع، وصحيح أن تكلفة الهجوم البري على غزة عالية جدًا لكنها
ليست مهمة مستحيلة، ويجب أن نتوقع قرارًا صهيونيًا بإعادة احتلال غزة ضمن ظروف
معينة (رغم التكلفة العالية)، ولهذا دومًا أقول أنه يجب على المقاومة في غزة
الحفاظ على المقاومة الشعبية (الشبان الذين يلقون الحجارة والزجاجات الحارقة) لأنه
ربما تأتي لحظة تحتاجهم المقاومة، ولا نريد التفريط بما لدينا من مقدرات بسبب وهم
اسمه القسام أصبح قوة عظمى، وسابع أقوى جيش في العالم من ناحية القوات الخاصة،
وغيرها من عبارات كبيرة تبيع الأوهام.
إرادة الانتصار دون أن نبيع أنفسنا الأوهام |
ثانيًا، المبالغة في أثر هجمات الهكر على الاحتلال
الصهيوني: سمعنا قبل أيام عن هجمات للهكرز على مواقع الانترنت التابعة للكيان
الصهيوني، وأغلبها كان هجمات حجب الخدمة (DoS)،
وتعطلت العديد من المواقع لبعض الوقت.
وهذا أمر جميل جدًا ومطلوب، لكن الحملة الدعائية
المرافقة له كان ضررها أكبر من نفعها، مبالغات وإنجازات لا أصل لها على أرض
الواقع: 60 ألف خبير هاكر يشاركون في الهجوم على الكيان الصهيوني، وحقيقة لا أدري
ما تعريفهم لخبير الهكر، لكن إن كان الخبير مثلما أفهمه فباستطاعتنا احتلال أمريكا
بستين ألف خبير هاكر.
وسمعنا عبارات مثل: إسرائيل على وشك الانهيار،
واحتلال موقع وزارة الدفاع الصهيونية (كأنهم احتلوا مقر الوزارة نفسها)، ونتنياهو
يبكي وصحافة الاحتلال تولول، وشبكات الانترنت الصهيونية بدأت بالانهيار، للحظات
يكاد المستمع يظن أن فلسطين حررت من النهر إلى البحر.
ويذهب الجميع مخدرين إلى النوم غير مدركين أن
الكيان الصهيوني من أكثر دول العالم تطورًا في التكنولوجيا وأنها قادرة على رد
الصاع صاعين؛ لا بأس فليهاجمونا لن تردعنا قوتهم فهكذا مبدأ المقاومة، لكن من
المحظور أن نظن أنه بسهرة يمكن القضاء (ولو إلكترونيًا) على الكيان الصهيوني – نفس
الخطأ الذي ارتكبه أجدادنا في حرب عام 1948م.
ثالثًا، المبالغة بتقدير قوة مرسي والثورة المصرية: سمعنا كلامًا
كثيرًا أيام مرسي لماذا لا يفتح الحدود مع غزة؟ ولماذا لا يفك الحصار عن غزة؟
ولماذا لا يستقبل حركة حماس في مصر؟ فيما المنطق والوقائع على الأرض كانوا يقولون
لنا أنه لا يسيطر على الجيش ولا يسيطر على أغلب مفاصل الدولة.
ربما ظن البعض (مثلي) أنه يعمل على التغيير التدريجي، فيما رأى آخرون (وكانوا
قلة) أنه لا يسيطر على شيء، أما من كان يظن أن مجرد وجود رئيس إخواني فقد أصبح
الآمر الناهي، وكل مؤسسات الدولة الفاسدة أصبحت طوع بنانه وبات أمر إصلاحها بين
الكاف والنون، فهؤلاء كانوا يبنون توقعاتهم على أوهام محضة لا تمت للواقع بصلة.
قد يختلف الكثيرين مع طريقة مرسي والإخوان في إدارة الدولة والثورة، إلا
أن الوهم الذي عشش في عقول الكثيرين أنهم كانوا يملكون القوة لتغيير كل شيء بسهولة
(كما نغير جواربنا كل صباح) ألقى عبئًا على مرسي والإخوان، وأطلق موجة من
المزايدات استفاد منها في نهاية المطاف الانقلابيون وحدهم.
في الختام:
التفاؤل جميل والأجمل أن يكون لدينا أحلام، وعن نفسي فكثيرًا ما تراودني
أحلام اليقظة عن لحظات الانتصار على الصهاينة، لكن المصيبة والطامة عندما يختلط الحلم
مع الواقع، فلا نميز بينهما، وعندما نظن أن أحلامنا تتحقق بمجرد تمني حصولها.
عندما نتخذ القرارات ونخطط لحاضرنا ومستقبلنا يجب أن نرتكز على الواقع
القاسي بكل مراراته ومصاعبه، وذلك بنسبة 99.9%، ونترك نسبة 0.1% لأحلامنا كي تعطي حياتنا
طعمًا (مثل ملح الطعام)، إلا أنه وبكل أسف فما أراه هو العكس تمامًا الكثير جدًا
من الملح والقليل من الدسم.
هناك تعليق واحد:
https://www.file4.net/f-oml حمل ملف فيديو شرح بندقية كلاشنكوف
إرسال تعليق