يتابع الكثير منا
أخبار الأزمة المالية التي تعاني منها الإدارة الأمريكية، وعدم قدرتها على تمرير
مشروع موازنة العام الجديد، وقد دخلت السنة المالية بدون إقرارها مما أدى لإيقاف
العمل في الكثير من المؤسسات الحكومية، ومن أبرز مشاكل الموازنة العجز الكبير الذي
تعاني منه الحكومة (المصروفات أكثر من الإيرادات).
وبدأ الكثير يتكلم
عن الأزمة الاقتصادية الأمريكية، وعن قرب نهاية الإمبرطورية الأمريكية، وغير ذلك
من الأماني التي نسمعها منذ سنوات طويلة دون أن نرى شيئًا منها يتحقق (أذكر أني
قرأت في مجلة لحزب التحرير عام 1990م مقالًا عن قرب انهيار الاقتصاد الأمريكي ...
وما زلت أنتظر :) )،
فنريد أن نفهم الوضع بعيدًا عن الأمنيات والأحلام التي يريد البعض أن يقنعنا أنها
واقع ومسألة شهور وسنوات قليلة.
قصة فتاتين سوسو ومسعدة:
يجب توضيح نقطة هامة قبل الدخول في صلب الموضوع، وهي أن مشاكل وهموم
البلدان الغنية والمتقدمة تختلف تمامًا عن مشاكل الدول الفقيرة والمتخلفة، وأنه
مهما ساء وضع تلك البلدان الغنية فستبقى أفضل بمراحل كبيرة عن أفضل البلدان
المختلفة، بل لا مجال للمقارنة بينهم أصلًا.
وحتى أوضح أكثر سأضرب مثلًا عن قصة فتاتين أنهتا امتحانات التوجيهي: سوسو
وهي ابنة عائلة ثرية وعدها والدها إن نجحت بالتوجيهي أن تحصل على سيارة مرسيدس
هدية، ومسعدة من عائلة فقيرة ومعدمة كانت مجتهدة للغاية وتسعى لدخول الجامعة.
جاءت النتائج وحصلت سوسو على معدل 70% لكن لا بأس سيتدبر لها والدها جامعة
خاصة لكي تدرس ما تريد، أما مسعدة فقد حصلت على 90% لكن والدها قال لها:
"معيش فلوس أعلمك، روحي انطزي واستني العريس، وإذا بده يعلمك بالجامعة كان
به، وإن ما بده بتنخرسي وما تحكي ولا كلمة".
ذهبت مسعدة إلى زاوية في المنزل لتبكي حظها التعيس وأحلامها المتبددة، لا
أحد تشكو له سوى أختها، والتي قالت لها "مش تفكري إذا بتعيطي راح أجلي عنك،
اليوم الجلي عليك وبلاش دلع".
مشكلة سوسو مختلفة تمامًا، فعندما ذهبت إلى والدها تذكره بالسيارة، أجابها
"والله يا بابا ما معي فلوس هالأيام، استني السنة الجاية بشتري لك سيارة،
وعبين تقدري تسوقي سيارتي لما تكون فاضية".
صدمت سوسو فكيف ستواجه صديقاتها بدون سيارتها التي تكلمت عنها كثيرًا!! واغرورقت
عيناها، وذهبت إلى غرفتها وفتحت صفحتها على الفيسبوك وكتبت "بكرهك يا
بابي"، وبدأت الاتصالات من صديقاتها ومعارفها، وسرعان ما بدأ الجميع يتكلمون عن
"قضية سوسو"، وكيف أن والدها أخلف وعده، وشمتت بها غريماتها وتعاطفت
معها صديقاتها، والكل يتكلم عنها.
الآن منطقيًا مشكلة مسعدة أعمق وأخطر وأكثر تعقيدًا من مشكلة سوسو، لكن
مسعدة لا يتكلم عنها أحد وبقيت تعاني بصمت، أما الجميع فيتكلم عن مشكلة سوسو سواء
تعاطفوا معها أم شمتوا بها، وهكذا عندما نتكلم عن الاقتصاد الأمريكي فنتكلم عن
مشاكل سوسو وليس مشاكل مسعدة (الدول الفقيرة).
في أمريكا المواطن العادي متعود أن يشتري سيارة جديدة غير مستعملة كل ثلاثة
أو أربعة أعوام، من يفعل هذا في بلادننا (من غير الأثرياء)؟ عندما يعجز عن فعل ذلك
وتبقى سيارته معه لعشر سنوات فسيقول لك أن وضعه المادي ضعيف، فيما في أكثر بلداننا
العربية مجرد الحصول على سيارة (ولو كانت على حافة قبرها) يعتبر إنجازًا كبيرًا.
من يتكلم عن أزمة السكن في الجزائر؟ أو الوضع الاقتصادي في الصومال؟ أو
أزمة أسعار الاتصالات في الأردن؟ على الأكثر نستذكر هذه الأمور إن حصلت مواجهات
واشتباكات وقتل الناس، لكن إفلاس شركة أو إقرار موازنة في أمريكا نجد كل العالم
يثرثر ويتكلم عنها، هذا ما يجب أن نضعه في بالنا عندما نتكلم عن الأزمات المالية
والاقتصادية التي يتعرض لها الغرب وتتعرض لها أمريكا.
خلفية تاريخية:
لا يمكن صرف دولار واحد من أموال الحكومة الأمريكية بدون إقرار ذلك من
الكونغرس الأمريكي، ولهذا الأمر تقاليد راسخة في التاريخ الأمريكي.
فالثورة الأمريكية اندلعت في الأصل ضد الضرائب التي كانت تفرضها حكومة بريطانيا
أثناء استعمارها لأمريكا، فالمستعمرون الأمريكان كانوا يدفعون ضرائب ولا يرون
خدمات مقابلها، ولم يكن لهم ممثلين في مجلس العموم البريطاني ليراقبوا أين تنفق الضرائب،
وأن لا تفرض ضرائب جديدة عليهم بدون وجود ممثلين عنهم.
كان مطلبهم أن يكون لهم ممثلين في البرلمان البريطاني، ولذلك رفعوا شعارًا
أصبح قاعدة في الحكم الحديث "لا ضرائب بدون تمثيل" no
taxation without representation، وفي العام 1773م كانت حادثة
اعتبرت الشرارة التي فجرت الثورة الأمريكية ، سميت "حفلة شاي بوسطن"،
حيث كان البرلمان البريطاني قد فرض ضرائب جديدة على الشاي الذي يرسل إلى المستعمرات
البريطانية، ورفض سكان المستعمرات في أمريكا تلك الضرائب.
رسمة متخيلة لعملية "حفلة شاي بوسطن" |
وعندما وصلت سفن محملة بالشاي إلى ميناء بوسطن، قرر قادة المستوطنين رفض
تنزيلها وبيعها، وطالبوا بإعادتها من حيث أتت، وفي ذات ليلة تنكر بعض المستوطنين
بلباس الهنود الحمر وتسللوا إلى السفن وألقوا حمولتها في البحر، فكانت الحدث الذي
فجر بعد ثلاثة أعوام الثورة الأمريكية.
وعندما استقلت أمريكا ووضع الدستور الأمريكي مع التأكيد على مبدأ "لا
ضرائب بدون تمثيل"، ووضعوا لذلك قوانين وآليات رقابة صارمة على كل دولار
تنفقه الحكومة، فما دامت هذه أموال الشعب فهي يجب أن تنفق من أجل الشعب، ومن حق
الشعب أن يراقب ويتأكد من أنها تنفق كما يشاء، فكانت الرقابة وإقرار الصرف الحكومي
من أهم أدوار البرلمانات.
في الكثير من دول العالم لو تعثر إقرار الموازنة في وقتها فهنالك قوانين
تتيح للحكومة إنفاق الأموال بشكل مؤقت، وفي دول أخرى (وتحديدًا الدول المتخلفة مثل
بلداننا العربية) هنالك بنود بأكملها بالموازنة لا تخضع للرقابة البرلمانية (هذا
إن وجد برلمان يراقب أصلًا)، وفي دول أخرى هنالك مبالغ مالية يمكن للمسؤول أن
يصرفها بدون الرجوع إلى جهات الرقابة البرلمانية، لكن كل هذه غير موجودة بأمريكا
المتمسكة بتقليدها التاريخي الراسخ بإخضاع كل شيء لرقابة ممثلي الشعب.
الأزمة المالية الحالية:
الرئيس الأمريكي أوباما من الحزب الديموقراطي، فيما خصومه من الحزب
الجمهوري يسيطرون على الكونغرس الأمريكي إلى حدٍّ ما، وهم يريدون استخدام ورقة
إقرار الموازنة للضغط عليه وابتزازه.
ويتعلق موضوع الابتزاز تحديدًا بمشروع التأمين الصحي، فأمريكا ولسنوات طويلة لم يكن فيها
تأمين صحي ترعاه الدولة، هنالك شركات تجارية تقدم هذه الخدمة لكن لا يستفيد منها
سوى الأثرياء والميسورين، ويحرم منها الفقراء.
وجاء أوباما عام 2009م وقدم مشروع التأمين الصحي، وهو أحد وعوده
الانتخابية، وبعد معارك طاحنة في الكونغرس استطاع تمريره رغم سعي الجمهوريين
المحموم لإفشال المشروع، بل وصل بهم الأمر إلى رفع قضية في المحكمة الدستورية من
أجل إلغاء القانون بحجة أنه غير دستوري.
لماذا عارضوا المشروع؟ الحزب الجمهوري في أمريكا يمثل: الأغنياء والبيض
والمتدينين المسيحيين، فيما الحزب الديموقراطي يمثل: الفقراء والأقليات العرقية
والتقدميين (أو الليبراليين كما نعرفهم في عالمنا العربي)، ومعارضو المشروع يقولون
أنه يبدد أموال دافع الضرائب، "ويعلّم الناس على الكسل والاتكالية، ويجب أن
يكسب كل شخص ماله بعرق جبينه، لا أن ينتظر الآخرين لكي يدفعوا عنه تكاليف العلاج
بينما هو يجلس في البيت لا يفعل شيئًا".
القانون مر في الكونغرس وهو يحتاج لأموال كثيرة لكي يسير، وهذا لم يرق
للجمهوريين، لذا قرروا أن يجعلوا من إقرار الموازنة مادة للمناكفة مع أوباما كل
عام، وفي العام الماضي حصلت مشكلة مشابهة وتأخر إقرار الموازنة وابتزوا تنازلات
منه، وفي هذا العام يكررون نفس الشيء، وذلك حتى يوصلوا رسالة أن التأمين الصحي
تسبب مشاكل مالية.
فالمشكلة في أصلها هي مناكفات حزبية لا أكثر، وكان بالإمكان حلها بسهولة
لولا هذه الاعتبارات، لكن الحزب الجمهوري ليس مثل أحزاب المعارضة العربية المستعدة
لحرق الأخضر واليابس مناكفة بالإخوان، فعندما تصل الأمور إلى لحظة الجد والخطر
الحقيقي فسيتراجعون عن ابتزازاتهم، وهذا ما يراهن عليه أوباما.
يوجد جانب آخر من المشكلة وهو الإنفاق الكبير الذي تنفقه الحكومة الأمريكية
والشعب الأمريكي أيضًا، وهذا يؤدي إلى ازدياد العجز التجاري (الواردات أكثر من
الصادرات) وتراكم الديون على الحكومة الأمريكية، لكن الاقتصاد الأمريكي يبقى قويًا
ولا مجال للمقارنة مع اقتصادات الدول "التعبانة".
أمريكا لديها موارد طبيعية متنوعة وضخمة وهي واحدة من كبار منتجي النفط في
العالم، لكن لأنها تستخدم كميات هائلة منه فما تنتجه لا يكفي وتقوم بالاستيراد،
وأكثر من ذلك فتقوم الحكومة الأمريكية بشراء كميات من النفط عندما ينزل سعره
وتخزنه في مخازن استراتيجية ليكون لديها احتياطي نفط لوقت الأزمات، وأمريكا أكبر
منتج ومصدر للقمح في العالم، ولديها أهم الشركات العالمية: جنرال موتورز، وجنرال
ألكتريك، ومايكروسوفت، وأبل، وبوينغ، وموبيل، وأكسون.
عدد سكان أمريكا حوالي 5% من تعداد سكان العالم، وينتجون حوالي 20% من الإنتاج
العالمي، ويستهلكون حوالي 30 – 35% من الاستهلاك العالمي، فمشكلتهم هي مشكلة سوسو
التي تكلمنا عنها في البداية، مشاكل الرفاهية والاستهلاك الزائد، لا مشكلة البحث
عن أساسيات الحياة.
الحكومة الأمريكية تعوض عن عجز الميزانية بحلول كثيرة: تشجيع الإنتاج بكافة
أشكاله مما يعني زيادة الضرائب المحصلة، وعبر الاقتراض، وعبر طباعة المزيد من
الدولارات، ولديها أيضَا خيار الضغط على الدول التابعة (مثل دول الخليج) لتدعم
الاقتصاد الأمريكي، فتبيعها طائرات حربية يكون سعرها الحقيقي 50 مليون دولار لكن
تجعلهم يدفعون 250 مليونًا ثمنًا لها، وهكذا.
الخلاصة:
أمريكا لديها مشاكلها الاقتصادية لكنها مشاكل دولة قوية، وتدور حول بقائها
في المقدمة وتوفير وسائل الرفاهية لمواطنيها، وليست مشاكل عميقة مثل مشاكلنا في
العالم المتخلف، ومشكلة الموازنة بالذات هي مناكفات سياسية وزوبعة بفنجان إن جاز
التعبير.
لا أقول هذا الكلام لإحباط الناس بقدر ما هو لتوعيتهم بحقائق الأمور، ولكي
نكف عن انتظار انهيار أمريكا ونحن جالسون في منازلنا، وبشكل أكثر تحديدًا أسأل:
ماذا يضرنا لو كانت أمريكا تنتج وتبيع وتربح؟ نحن لدينا مشاكل معها في دعمها
لأنظمة الاستبداد ودعمها للكيان الصهيوني ولاحتلال أراضينا، ولممارسة الابتزاز ضد
بلداننا ولنهب خيراتها، لكن كل ذلك لن تحله الأزمات الاقتصادية التي تمر بها
أمريكا.
بل على العكس تمامًا في ظل أن أغلب اقتصادياتنا العربية مرتبطة بالدولار
وبالعلاقات مع أمريكا، فأي انهيار اقتصادي أمريكي سيجرنا إلى الهاوية معها، والحل
إذن؟
الحل هو أن نعمل وأن نكف عن أحلام اليقظة، لنعمل على بناء اقتصاد مستقل
بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية، وأن نحارب النفوذ الأمريكي في دولنا العربية، وأن
نسعى لتحقيق استقلال اقتصادي وسياسي، وأن نرفض الابتزاز الأمريكي وأن نحارب الكيان
الصهيوني، فالانتصارات لا تأتي ونحن ننتظر انهيار الاقتصاد الأمريكي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق