لا شك أن للسلف الصالح والصحابة رضوان الله
عليهم مكانة خاصة في فهم الإسلام لأنهم عاشوا في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام
أو قريبًا منه مما يجعلهم أكثر قدرة على فهم الإسلام ممن جاء بعد ألف عام وألف
وأربعمائة عام، وكجزء من منهجية محاربة البدع والزيادات التي طرأت على حياة
المسلمين اليومية كانت دومًا الدعوة من أجل العودة إلى الأصول أي القرآن الكريم
والسنة النبوية مستأنسين بفهم الصحابة لها للأسباب التي ذكرتها سابقًا.
هذا يسمى اقتداءً بالسلف الصالح وهي ظاهرة صحية
ما دام القصد والغاية منها أن نكون أقرب للإسلام الذي جاء به الرسول محمد عليه
أفضل الصلاة والتسليم، إلا أنه ومن رصد حركة الحياة من حولنا نجد اختلالًا في فهم
الاقتداء بالسلف حيث يصبح غاية بحد ذاتها، ويتجاوز ذلك إلى إضافة هالة من القدسية
والتقديس على كلام وآراء السلف والصحابة ورفعه إلى مرتبة قريبة من القرآن الكريم.
والأكثر من ذلك نجد البعض يعظم من شأن كل
الأجيال السابقة، مسخفًا ومسفهًا كل الآراء الحديثة، بل ويصل الحد إلى التقليل من
شأن كل جيلنا المعاصر "فمن نحن حتى نقارن أنفسنا بالصحابة أو التابعين أو
العلماء؟"
وهنا نريد أن نقرر في البدء أن خيرية الصحابي أو
التابعي، لا يعني أن نقدسه أو أن نقدس رأيه، ولا أن نقلده تقليدًا أعمى قد يبدو
خارجًا عن سياقه في بعض الأحيان، كما لا يعني أن نرفعه إلى مرتبة فوق بشرية كأننا
نقول للناس لا تحاولوا اللحاق به فلن تبلغوا مرتبته، وكثيرًا ما نسمع عندما نقول
لشخص ما لا تفعل كذا فهذا ليس من أخلاق الصحابة فيرد عليك تلقائيًا أنا لست من
الصحابة.
تميل النفس البشرية دومًا إلى تعظيم شأن السلف
والأسلاف، ابتداءً من الآباء والأجداد وانتهاءً بالرموز الدينية أو القومية، وفي
اليابان والصين بلغ تعظيم شأن الأسلاف حد عبادتهم وتقديم القرابين لهم، وإن لم يكن
هذا حالنا كمسلمين ولا أظن أننا سنصل إلى هذه المرحلة أو قريبًا منها، لكن هنالك
اختلالات فكرية يجب الوقوف عندها ومعالجتها.
وأستحضر هنا ما كتبه الدكتور حسن الترابي في
كتابه "تجديد الفكر الإسلامي" أن الاقتداء بالسلف الصالح يعني أن نكمل
البناء الذي بدأوه لا أن نكرر بنائهم كما هو، وهو هنا ينتقد الاستنساخ لفعل
الصحابة والسلف بدون فهم مقاصد أفعالهم ولا أقوالهم، وبدون فهم الاختلاف بين
الزمان والمكان ولا اختلاف الظروف.
ولعلنا نلحظ ميلًا عند البعض لتقديس قول الصحابي
أو التابعي أو حتى العالم، دون أن يعترف بذلك، لكن رفضه مناقشة القول ومحاولة
إخراسك بقوله من أفهم أنت أم الصحابي؟ وكأننا كائنات دونية لا يحق لها التفكير ولا
النقاش، بالرغم من أنه هذا ليس من نهج السلف ولا الخلف، وشيخ الإسلام ابن تيمية
سجن وعذب لأنه ناقش ورفض القوالب الجاهزة التي كانت تقدم على أنها الحق وحده.
نريد اتباع نهج شيخ الإسلام ولا نريد استنساخ
أقواله ولا آرائه، وهذا لا يتم إلا بالتوقف عن المغالاة بتقديس الصحابة والسابقين
من أهل العلم، وهذا التقديس هو ما دفع البعض لاستعظام شأن مسلسل عمر واستهجانه
وكأنه كفر مبين، المسلسل يصور الصحابة على أنهم بشر (والقرآن ذكرنا بأن النبي بشر
يأكل ويمشي بالأسواق)، وهذا ليس إلا لكي نتبعهم ونقتدي بهم.
الناس تقتدي بمن تحس بالقرب منه، يأكل ويشرب
ويفكر مثلها، أما الصور الأسطورية والمغالية في المثالية، فالناس تحبها وتشيد بها
وتتغنى بها، لكنها تعتبرها خارج دائرة القدوة لأننا لن نصل إلى هذه الهامات.
فبدلًا من أن نحاول قصر فتاوى وأقوال لصحابة أو
أهل العلم السابقين على الناس جبرًا مستخدمين الإرهاب الفكري إما أن تقبل ذلك أو
أنت متطاول على الصحابة أو أهل العلم، لنعلمهم حب تلك النماذج ولنعلمهم منهج
الصحابة ومنهج أهل العلم ومنهج أهل السلف، وأول ذلك أن نعود دومًا للأصول بأنفسنا
وأن لا يفكر غيرنا نيابةً عنا.
وحتى نستطيع التوفيق بين احترام الصحابة والسلف
الصالح وأهل العلم، وبين أن نكون أصحاب فكر وقرار مستقل لا يتناقض مع ما أراده
الشرع، أريد العودة قليلًا للترابي وكلام سمعته منه يوم أمس السبت في ندوة بثت على
فضائية الجزيرة مباشر، فبعد أن استعرض تجربة الحركة الإسلامية في السودان، انتقده الباحث
خالد الرجوب وقال له بما معناه أنك لم تأت بجديد وكلامك سمعناه مرارًا من قبل
وجئنا لنسمع جديدًا عن رؤيتك بالنسبة للثورات العربية.
رد عليه الترابي بأن جيله قدم ما لديه والدور
عليكم (أي الجيل الجديد)، وانتقل للكلام بشكل عام (وهذا بيت القصيد الذي أريد
إيصاله) بأن السابقين يعطون تجربتهم بشكل مختصر للاحقين (أو الزبدة)، الذين يزيدوا
عليه ويكفي السابقين فضلًا أن يأتوا بمن هم أفضل منهم (هذا كلامه نقلته بمعناه
وليس حرفيًا)، فنحن نتكلم عن بناء يتراكم المرة تلو الأخرى، كلما مر عالم وكلما مر
دارس.
أنا لا أريد أن أضرب الكثير من الأمثلة حتى لا
نلتهي بقضايا خلافية، لأن المهم في هذه المقالة هو تثبيت المبدأ، لكن لنتكلم على
سبيل المثال عن الكتابة والقراءة فكما نعرف أن النبي عليه الصلاة والسلام كان
أميًا بل أكثر من ذلك العرب كانوا أمة أمية، فالعربية كانت لغة محكية (وليست
مكتوبة) مثل أكثر لغات العالم، وذلك حتى زمن قريب من البعثة النبوية عندما بدأت
الكتابة تنتشر بين العرب.
كان هنالك خط المسند في جنوب الجزيرة العربية،
لكن في شمال الجزيرة والحجاز لم يعرفوا الكتابة إلا من الأنباط واستخرجوا من
الأحرف النبطية الحرف العربي الذي نعرفه وذلك قبل حوالي مئة عام من الإسلام،
وبالتالي كانت الكتابة تكنولوجية جديدة على العرب.
جاء الإسلام وجاء القرآن ليرسخ مكانة الحرف
العربي ويعطيه انطلاقة، لكن مثل أي تكنولوجية في بداياتها يكون العارفون بها
قليلين، هكذا نفهم أمية الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته، وبالتالي نفهم بشكل
أفضل كيف أن النبي الأمي حث أتباعه على تعلم القراءة والكتابة، فهو قائد حث أتباعه
على تبني التكنولوجية الجديدة التي بدأت تنتشر بالجزيرة العربية، وهكذا فهم
الصحابة والتابعين وهكذا لم تنتشر الكتابة العربية فحسب، بل اهتموا بقواعدها
وطوروها وحسنوها واستخدموها في الزخارف والفن.
لذا لا يقبل ولا يستساغ من الذين يحاربون
الانتساب إلى المدارس والجامعات بأن النبي أمي ولم يتعلم، ولا يقبل أن نبدأ من
الصفر، لقد وصلنا بالعلم والتعليم سواء اللغة العربية أم العلوم الشرعية أم العلوم
الدنيوية مراحل متقدمة، وكل هذا بفضل النبي الأمي الذي فتح هذا الطريق، لذا يجب أن
نستمر بها اقتداءً بمنهج الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته والتابعين والسلف
الصالح.
هذا مجرد مثال حتى نفهم الفكرة بشكل أفضل، ولا
شك هنالك أمثلة أخرى لكنها قد تثير جدلًا كونها تتعلق بأمور خلافية، فما أريد أن
أصل إليه هنا لنتفق على المبدأ، فعندما نتفق عليه كل ما بعده يهون ويصبح أكثر
سلاسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق