كنت (وما زلت) من معارضي مقاطعة الانتخابات سواء
في الضفة أو غيرها، لأن هذا فعل استسلامي يقدم للنظام ما يريده على طبق من ذهب ألا
وهو الاستفراد بمراكز صنع القرار بغض النظر عن الطريقة التي يفوزون بها.
ولذا كتبت قبل أكثر من عام منتقدًا قرار حماس
بمقاطعة الانتخابات البلدية التي كان مزمع عقدها في حينه (قبل أن يؤجلها عباس)، حتى
لا تترك الساحة أمام حركة فتح والسلطة لتواصل مسيرة الاستفراد بالساحة في الضفة،
إلا أنه (في هذا العام) تبين لي أن الأمر أكثر من مجرد قرار تتخذه قيادة الحركة،
فما دامت معنويات القاعدة التنظيمية للحركة متدنية وما دامت ماكنتها التنظيمية
عاجزة عن الحركة، فستصبح المشاركة مجرد عملية انتحارية، وقد رأينا نتائج الكتل
الإسلامية في الجامعات المتواضعة بالعام الأخير وأثر طول فترة الغياب عن الساحة.
قبل الانطلاق والمشاركة في العملية الانتخابية
يجب أن تتواجد الحركة في الميدان وأن تحتك بالشارع الفلسطيني، فالناس لا تنتخب
المظلوم بل تنتخب القوي الأمين، والجلوس في البيت طوال هذه السنوات بحجة المظلومية
تعطي رسالة سلبية للناخب بأنك لست قويًا، ربما أمين لكنك لست قويًا.
لماذا المشاركة
بالانتخابات البلدية؟
وقد يطرح البعض ما فائدة المشاركة في انتخابات
مجالها خدمي بالدرجة الأولى، في ظل أن البلديات مقيدة ولا تستطيع التحرك بدون
ميزانيات حكومية أو تبرعات دول مانحة تحرم منها المجالس التابعة لحماس.
الجواب من شقين: لكي تستمر حماس وتكون صاحبة
كلمة في الضفة الغربية (أكبر تجمع فلسطيني داخل فلسطين المحتلة) فيجب أن يكون لها
احتكاك بالشعب، وهنا نلحظ غياب شبه تام للحركة منذ عام 2007م على كافة الصعد، ومن
الناحية الأخرى لا يتعامل الشارع الفلسطيني والإعلام مع الانتخابات على أنها مجرد
انتخابات خدمية، بل ينظر لها على أنها تحمل أبعادًا سياسية، وحاولت فتح تفسير
نتيجة الانتخابات على أنها انتصار لخطها السياسي (التفاوضي الأوسلوي)!!
محاولة حماس لإيجاد حلول:
إذن ما الحل؟ فحماس غير قادرة على المشاركة في
ظل الملاحقة الأمنية؛ فيوم أمس الاثنين أعلن جهاز الشاباك عن القبض على مجموعة
قيادية في حماس كان من بين مهامها تمويل الحركة في الضفة وتهيئتها من أجل خوض أي
انتخابات مستقبلية، وهي غير قادرة على التأثير من خلال المقاطعة (فالانتخابات جرت
والنتائج اعتمدت ويا دار ما دخلك شر)، ولا تستطيع الاستمرار بالانكفاء عن العمل
العام بحجة قمع السلطة لأن ما كان مؤقتًا أصبح دائمًا، والضربات الأمنية المزدوجة
(الصهيونية-السلطوية) مستمرة وستبقى مستمرة.
حاولت حماس من خلال اتفاقية الدوحة تطبيق
المصالحة لمعالجة هذه النقطة، واشترطت منح فترة قبل إجراء الانتخابات لتلتقط
الحركة أنفاسها في الضفة وتستطيع ترتيب صفوفها، لكن الارتباك الذي شاب تطبيق
الاتفاقية وخصوصًا قبول حكومة غزة عمل لجنة الانتخابات لتوقفها بعد أيام قليلة
بدون سابق إنذار، أضعف موقف حماس فلم تعد قادرة على طلب توفير أجواء الحرية في
الضفة لأنها قطعت طريق الحوار مع السلطة، حتى وإن تذرعت لقرارها بعدم وجود حرية في
الضفة.
تركت حماس الحرية لمؤيديها في الضفة لدعم قوائم
مستقلة معينة وفق الظرف المناسب لكل قرية أو بلدة أو مدينة، لكن وجود تصريحات
رسمية لحماس رافضة للانتخابات ولعدم وجود رؤية واضحة حول سياسة دعم القوائم المستقلة،
أربك مناصري الحركة الذين هم أصلًا غير مؤمنين بجدوى المشاركة بهذه الانتخابات
(مثلهم مثل إغلبية الشارع الفلسطيني)، وبالتالي كان تأثير مؤيدي الحركة محدودًا جدًا
بشكل عام في الانتخابات البلدية.
مع ذلك جاءت نتائج الانتخابات تحمل دلالات مهمة
يجب الوقوف عندها حتى نفهم موازين القوى في الضفة الغربية، وكيف يمكن لحماس أن
تستفيد من الدروس التي تعطيها هذه الانتخابات.
انخفاض نسبة المشاركة:
نجد أن نسبة المشاركة في الانتخابات منخفضة
(حوالي 50% من الناخبين المسجلين وهم أصلًا نصف من يحق لهم التصويت – يعني ربع
أصحاب حق التصويت)، كما نجد عزوفًا عن الترشح فحوالي 82 مجلس بلدي وقروي تأجلت
الانتخابات فيها لعدم وجود قوائم مرشحين فيها، و181 مجلس بلدي وقروي حسمت بالتزكية
من بينها 145 مجلسًا فازت بها قوائم حركة فتح الرسمية.
الإحجام عن الترشح ليس فقط لأن حماس لم تشارك
ولا لأن اليسار لا يملك كوادر تنظيمية في أغلب هذه المناطق، بل أيضًا لأنه مورست
ضغوط على المستقلين وعلى المنشقين عن فتح لكي لا يترشحوا في هذه المناطق، فإن كانت
الانتخابات عند صندوق الاقتراع نزيهة فإن عملية الترشح شابتها ضغوط مباشرة وغير
مباشرة تطعن في نزاهة الانتخابات.
ولعل انتخابات قرية عقابا تعطينا لمحة عن
الممارسات الديموقراطية الفتحاوية، حيث ترشحت قائمتين واحدة تابعة لفتح وثانية مستقلة،
فشطبت لجنة الانتخابات القائمة التابعة لفتح لوجود مخالفات قانونية فيها، فما كان
من القائمين على فتح في القرية إلا إصدار بيان تهديد بعدم إجراء الانتخابات
بالبلدة مما اضطر أعضاء القائمة الثانية للانسحاب، وأصبحت القرية بلا قوائم مرشحة
وستخوض الانتخابات التكميلية مع 82 مجلسًا قرويًا وبلديًا آخرين.
فنحن نتكلم عن انعدام ثقة للناس بالانتخابات
والسلطة وجو إحباط وضغوط فتحاوية على منافسيها وانكفاء حماس وعدم مشاركتها، مما
سمح لفتح لكي تنفرد وبدون ضجة إعلامية كبيرة تتكلم عن تجاوزات حركة فتح.
هزيمة "فتح الرسمية":
وبالرغم من الانفراد الفتحاوي إلا أن قوائم فتح
الرسمية تلقت هزائم في أكثر من موقع: في نابلس وجنين وبيت جالا وبيت ساحور تلقت
قوائم فتح الرسمية الهزيمة أمام قوائم متمردة عن حركة فتح وخاصة قائمتي غسان الشكعة
ووليد مويس، وفي رام الله ودار صلاح هزمت قوائم لمنظمة التحرير (تحالف فتح الرسمية
مع فصائل يسارية) أمام قوائم فتحاوية غير رسمية.
قد يقول قائل أن هذه هي فتح، وأن هذه النتائج هي
تحصيل حاصل في مصلحة فتح، وأنها فازت بالنهاية بكل هذه المواقع، وهكذا تحسب حركة
فتح الأمور فالمهم أنها فازت، ولا تهتم بدلالات النتائج فهي تظن أنها محصنة وأن
الوضع القائم وأن مقاطعة حماس السلبية للانتخابات ستدوم للأبد، فلا داعي لفهم
النتائج ما دامت في صالحها.
لكن لو قرأنا نتيجة توجه الناخبين في أكثر المدن
المهمة نحو قوائم فتح غير الرسمية والتي تمثل قواعد فتح الشعبية، وإسقاط القوائم
التي تمثل "فتح الرسمية" والتي تم فرضها من قبل القاطنين في المقاطعة،
يجد أن هنالك غضب متناهي تجاه السلطة وقيادتها في رام الله، ونستطيع الاستنتاج بأن
هنالك شرخ في فتح (وهذا لمسناه أيضًا في الحراك الشعبي ضد فياض قبل فترة وحركة الإضرابات
النقابية المستمرة)، شرخ بين القيادة والقاعدة التي لا ترضى عن سياسة قيادتها سواء
بالتعامل الرخو مع الاحتلال أو سياستها الاقتصادية الفاشلة.
ولعل ما يمنع ظهور هذا الشرخ هو أمران: لا توجد
قيادة جريئة تمثل قاعدة فتح تستطيع أخذ على عاتقها مواجهة قيادة المقاطعة، والخوف
من حماس فالاستقطاب الكبير بين حماس وفتح، يوحد فتح من الداخل، وإن كانت حماس لا
تستطيع فعل الكثير بالنسبة للنقطة الأولى، لكنها تستطيع فعل الكثير بما يتعلق
بالخوف من حماس، ولو سارت قدمًا بالمصالحة وقدمت تنازلات كبيرة لفتح لربما استطاعت
تحرير قاعدة فتح من الخوف من التمرد على قيادتها.
المشكلة لدى حماس ولدى فتح هو انعدام الثقة
المتبادلة بالإضافة للحسابات الحزبية الضيقة، ولو تخلصت الحركتان من هاتين
العقدتين لأمكن إزاحة القابعين في المقاطعة والتوصل إلى تفاهم مشترك حول أساليب إدارة
الصراع مع الكيان الصهيوني وإدارة الشأن الفلسطيني الداخلي.
مشاركة اليسار:
أثبت اليسار أنه مجرد تابع لفتح، وأن وزنه في
الشارع يتضاءل، فقد شارك بالانتخابات رغم أنها تأتي في إطار تكريس الانقسام، وكان
يطمع أن يزيد من حصته بالبلديات، لكنه فشل في تعزيز مواقعه وتراجع في معاقل سابقة
له مثل أبو ديس ورام الله، وحقق نتائج متواضعة ببعض القرى بفضل تحالفات عشائرية
وعائلية.
القوائم المستقلة:
خاضت قوائم مستقلة بعضها عائلي الطابع (مثل بلدة
سعير) وبعضها قريب من التيار الإسلامي (مثل الخليل) وحققت نجاحات متفاوتة، لكنها
تجارب محدودة كما لم تجد تجاوبًا بوصفها بديل حقيقي عن فتح، لأن أبناء ومؤيدي حماس
(مثل أغلب الحزبيين والإسلاميين) لا يؤمنون بدعم أي إطار أو قائمة لا تأتي بتزكية
من الحركة.
وهنا أشير إلى تجربة حركة التوحيد والإصلاح في
المغرب، والتي تكلم عنها رئيسها محمد الحمداوي في برنامج بلا حدود في شهر آب
الماضي، حيث سمحت الحركة لمؤيديها بإنشاء جمعيات عمل أهلي لا ترتبط بأي روابط
تنظيمية أو مرجعية بالحركة الأم، وأن التجربة سمحت للحركة بالتوسع في المجتمع
والوصول إلى كافة طبقاته وفئاته.
وإن كانت هذه التجربة ضرورة في الواقع المغربي
فهي أكثر ضرورة وإلحاحًا في واقع الضفة الغربية، في ظل أن النواة التنظيمية لحماس
هي نواة ضيقة ومحدودة ومعرضة للاعتقال والتغييب الدائم في سجون السلطة والاحتلال،
وفي ظل أن أي مؤسسة أو جمعية تتبع لحماس (حتى لو باستقلال إداري) معرضة للحظر
الرسمي بشكل مباشر، ابتداء من الكتل الإسلامية في الجامعات وانتهاء بلجان الزكاة،
والتي تعتبرها المحاكم العسكرية الصهيونية تنظيمات محظورة تابعة لحماس.
فترك الناس تعمل باستقلالية بدون الحاجة للعودة
إلى مرجعية الحركة، وترك من أراد من أبناء حماس للعمل فيها بدون قيود أو تثبيط،
وبدون اشتراط العودة للحركة في ما يقوم به، يشكل حلًا سواء على مستوى البلديات أو
مستوى النشاط العام، فليس مطلوبًا ختم كل نشاط بالختم الأخضر، المهم تعريف الناس
على روح الإسلام وخدمة الناس (بدل ترك الساحة للفاسدين)، ووجود شخصية محترمة في
رئاسة البلدية أو المجلس القروي (وليست من حماس) أفضل من وجود شخصية فاسدة.
خلاصة ونتائج:
أولًا: الوضع الحالي في الضفة سيستمر طويلًا،
وسياسة "لننتظر تحسن الأوضاع" هي سياسة أثبتت فشلها.
ثانيًا: الاكتفاء بالمقاطعة وإلقاء تبعيتها على
السلطة لا تجوز، ويجب التفكير بحلول إبداعية مثل ترك الحرية لأبناء الحركة لتشكيل
قوائم مستقلة بعيدًا عن حماس أو دعم مثل هذه القوائم، وهنالك انتخابات تكميلية
قادمة نهاية الشهر القادم تشكل فرصة لتجريب مثل هذه الحلول.
ثالثًا: يجب الخروج من عقلية أن العمل العام يجب
أن يكون تحت مظلة التنظيم والحركة، وترك المجال للمؤيدين والمناصرين ليعملوا
باستقلالية أكبر، وعلى كافة المستويات.
رابعًا: يجب التعامل مع فتح وفق مقاربة مختلفة
عن المتبع حاليًا، والخروج من دوامة المناكفات الدائمة، والمبادرة بهدنة إعلامية
من جانب واحد تجاه حركة فتح (وليس أجهزة السلطة الأمنية).
خامسًا: يوجد لا مبالاة شعبية طاغية في الضفة
الغربية، كنتيجة لتراكمات السنوات العشرة الماضية، ابتداءً من اجتياحات عام 2002م
ومرورًا بالانقسام وانتهاءً بسياسة الإقصاء التي تمارسها السلطة، واستمرار هذه
اللامبالاة هي ضربة في صميم العمل الوطني الفلسطيني، ولا تؤثر على تنظيم دون آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق