فيما كانت المقاطعة تحتفل بالنصر العظيم والفتح المبين لمحمود عباس والخطوة الأولى على طريق الألف ميل نحو مقعد فلسطين في الأمم المتحدة، كان الصهاينة يقدمون التهاني على طريقتهم الخاصة، وقدموا عدة هدايا مرة كالعلقم ليؤكدوا مرة أخرى أن الدولة الفلسطينية لن تقوم لها قائمة ما داموا أصحاب الكلمة النهائية وأصحاب اليد العليا.
فكان اختطاف النائب أحمد عطون من داخل مقر الصليب الأحمر، وذلك بعد أن تكلم عنه عباس في خطابه (المسمى بالتاريخي) وعن زملائه المعتصمين رفضاً لقرار إبعادهم عن القدس المحتلة، وكأن الصهاينة يقولون لعباس: "ليس فقط لن تكون القدس جزءاً من الدولة الفلسطينية (الموعودة) بل سنمارس حقنا في طرد الضيوف غير المرغوب بهم من القدس المحتلة"، والضيوف غير المرغوب بهم هم أهالي القدس من أبناء الشعب الفلسطيني، فهم حسب القانون الصهيوني مجرد مقيمين في مدينة القدس، وللاحتلال سحب هذا الامتياز متى شاء وترحيلهم.
ويوم أمس الأول كانت الهدية الثانية قرار روتيني ببناء مئات الوحدات السكنية جديدة للمستوطنين في القدس المحتلة (وتحديداً في القدس الشرقية عاصمة الدولة التي يحلم بها عباس)، وقرار بمصادرة أراضي داخل الضفة الغربية في منطقة بيت لحم، وذلك تحدياً للشرط الواحد والوحيد الذي وضعه عباس لاستئناف المفاوضات أي وقف الاستيطان.
فعندما وقعت منظمة التحرير على اتفاقية أوسلو كان المبرر الأساسي هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرض فلسطينية في الضفة والقطاع وحماية ما تبقى من أرض من السرطان الاستيطاني، إلا أن الاستيطان لم يتوقف ولا حتى ليوم واحد، وخاصة في القدس المحتلة والتي تشهد تهويداً على قدم وساق وتزويراً للتاريخ وسلخاً للمدينة عن تاريخها وحاضرها العربي والإسلامي.
وما زلنا حتى اليوم وبعد 18 عاماً من أوسلو ونحن عاجزون عن وقف الاستيطان (السبب الأساسي للتوقيع على الاتفاقية) وفيما الأمور تزداد تدهوراً على الأرض نلتهي باحتفالات المقاطعة والخطاب التاريخي، وفيما يهودون القدس والضفة شبراً شبراً وزنقة زنقة نرد عليهم بخطابات تاريخية.
الإنجازات الوحيدة التي تحققت في مواجهة الاستيطان كانت نتيجة لحرب مسلحة شرسة شنت ضد المستوطنين الصهاينة خلال سنوات انتفاضة الأقصى، فتباطأت وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية، وأخليت مستوطنات غزة عام 2005م و4 مستوطنات في شمال الضفة الغربية، وما أن انخفضت وتيرة عمليات المقاومة وبدأت السلطة بتطبيق "التزاماتها الأمنية" حتى عاد الاستيطان لوتيرته الأولى.
أما القدس فلم تتأثر فيها عملية التهويد مطلقاً بل على العكس تزداد شراسة عاماً بعد عام، وما اعتقال النائب عطون تمهيداً لإبعاده ووجود قائمة بحوالي 400 من القيادات المقدسية مرشحة للإبعاد إلا جزءاً من عملية تهويد القدس، والسؤال المطروح هو ما الذي فعلناه لهم؟ وما الذي فعلناه للنواب المهددين للإبعاد؟ وما الذي فعلناه للمسجد الأقصى الذي أصبحت جدرانه الخارجية كنساً يهودية تمهيداً للاستيلاء عليه من الداخل؟ وما الذي فعلناه لوقف الاستيطان في القدس وفي الضفة؟
هذه الأسئلة ليست موجهة فقط إلى عباس بل أيضاً إلى حماس والجهاد والمواطن الفلسطيني العادي وللعرب والمسلمين، فالقدس هي محور الصراع مع الكيان الصهيوني، والأقصى هو أولى القبلتين وثالث الحرمين، فهل ارتقينا جميعاً إلى مستوى التحدي الذي تفرضه المدينة المقدسة؟ هذه واحدة من أقدس المدن الإسلامية وبنفس الوقت تتعرض لأشرس عملية تهويد ونزع للصفة الإسلامية عنها، يجب أن نؤمن بأننا أمام كارثة بحاجة لتصرف عاجل.
ما نحتاجه ليس الخطابات المنمقة وليس المناكفات الحزبية، نحتاج لأن نجعل القدس محور اهتمامنا كما هي محور اهتمام حكومة الاحتلال التي تركتنا نلتهي باستحقاق أيلول فيما هي تخطط وتنفذ الخطوة تلو الخطوة لتهويد المسجد الأقصى ولبناء المستوطنات واختطاف رموز المدينة المقدسة ولهدم قبور الصحابة في مقبرة مأمن الله، ونحتاج بعد ذلك إلى تسخير كل ما لدينا من إمكانيات لجعل العدو الصهيوني يدفع الثمن مقابل ما يقوم به في القدس.
والصهاينة لن يستسلموا بسهولة في معركة القدس لذا فليس المطلوب مجرد هبة لأيام معدودة أو مسيرات شموع، الأمر يحتاج لطول نفس ولضربات متلاحقة تستنزف العدو الصهيوني داخل المدينة المقدسة وحولها، ضربات تتنوع بأشكال مختلفة فإما على شكل مقاومة شعبية، أو على شكل مقاومة مسلحة، أو على شكل حملة مقاطعة دولية ضد الكيان الصهيوني بسبب اختطاف النواب وإبعادهم عن موطنهم، أو على شكل دعاوى قضائية للمطالبة باسترداد أملاك اللاجئين في القدس الغربية، أو على شكل اعتصامات أمام سفارات الكيان في مصر والأردن وأوروبا احتجاجاً على الاعتداءات اليومية على المسجد الأقصى، أو على شكل عصيان مدني في القدس.
يوجد ألف أسلوب وأسلوب كي نمارس الضغط على الاحتلال ونجبره في نهاية المطاف على التراجع، لكن هل توجد الإرادة؟ هل يوجد تطبيق؟ أم أننا سنكتفي بترداد الخطابات التاريخية أو تكرار البكائيات الروتينية عن قمع السلطة للمقاومين؟
حسناً آمل أن لا نطيل التفكير لأن الخيارات والفرص تضيق يوماً بعد يوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق