الأحد، 16 أكتوبر 2011

قراءة في غزوة السفارة وتداعياتها


في مصر ما بعد الثورة هنالك حملة تستهدف كل ما يمثل حقبة مبارك، وهي حملة تتم برعاية رسمية حيث يتبارى الجميع ثواراً ومن تسلقوا على اكتاف الثورة على التبرؤ من الحقبة المباركية ومحاكمة رموز تلك الحقبة، ومحاربة كل ما يمت له بصلة وكل ما يمت لعهد الفساد والاستبداد، إلا أن العلاقات مع الكيان الصهيوني بقيت مستثناة وخارج هذه الحملة (على الأقل خارج الحملة الرسمية).



والمتتبع لأيام مبارك الأخيرة بالحكم يجد أن الأمريكان كان همهم الأول والأخير علاقة مصر مع الكيان الصهيوني والحفاظ على معاهدة كامب ديفيد، حيث قدم المجلس العسكري الضمانات التي تطمئن الأمريكان أن انتقال مبارك لا يعني المساس بالمعاهدة أو العلاقات مع الكيان.



بالنسبة للثوار والأحزاب السياسية وبالرغم من وجود إجماع لديهم على رفض كامب ديفيد ورفض وجود السفارة في القاهرة، إلا أنهم فضلوا تأجيل الموضوع إلى ما بعد المرحلة الانتقالية، مدركين حساسية الأمر لدى المجلس العسكري وفي قبوله لحجة أن الحكومات الانتقالية لا تقدم على خطوات مصيرية مثل إلغاء المعاهدة أو إغلاق السفارة وإنما عملها هو تسيير الأعمال.



جاءت عملية إيلات ورد الفعل الصهيوني عليها وقتله لجنود مصريين لتنبش الملف، وتوفر ذريعة لكل من قبل على مضض بتأجيل نقاش ملف السفارة من أجل إعادة فتحه والمطالبة بالرد من خلال إغلاق السفارة، وبدأت بعض الجماعات الشبابية بتنظيم الاعتصامات أمام السفارة وإنزال العلم الصهيوني أول مرة، ليعاد رفعه وليبنى جدار خرساني من أجل حماية السفارة.

 وبدلاً من أن يحمي الجدار السفارة استفز الجماعات الشبابية واستفز المواطن المصري العادي، ونظم اعتصام جديد الجمعة الماضي وكان مقرراً أن يكون للاحتجاج على وجود الجدار لكنه تطور إلى هدم الجدار ثم إنزال العلم ثم اقتحام السفارة وإلقاء وثائقها من النوافذ.



ساد الخوف لدى الكثيرين من هذه الخطوة غير المسبوقة، وحرصت المجموعات المنظمة للاعتصام والتشكيلات المختلفة للثوار على النأي بنفسها عن هذه الخطوة، مع تأكيدها على تحميل مسؤولية ما حصل للمجلس العسكري الذي لم يتخذ إجراءات تردع الاحتلال الصهيوني وبدلاً من ذلك قام ببناء جدار خرساني لحماية السفارة، مما أستفز الناس وأدى لهذه الأحداث.


بالرغم من عفوية ما حصل في السفارة إلا أنها نتيجة متوقعة، فما كان يحمي السفارة هو نظام مبارك والنظام قد زال، وكل ما دون النظام في مصر كان يكره السفارة وكان معبأً إلى أقصى الحدود ضد الكيان الصهيوني، وإن كانت الأحزاب السياسية تتفهم الاعتبارات التي تدفع المجلس العسكري للحفاظ على العلاقات الديبلوماسية في المرحلة الانتقالية، إلا أن المواطن العادي من الصعب عليه أن يستوعب لماذا تبقى السفارة وسط القاهرة، ومن الصعب عليه أن يفهم لماذا تمت إزالة كل ما يمت لمبارك بصلة مع استثناء السفارة، ومن الصعب عليه (كما هو من الصعب علينا) أن يفهم لماذا يعطى الكيان الصهيوني هذه الحصانة في مرحلة ما بعد الثورات العربية.


ألم يكن يقال لنا أن الحكام العرب هم من يحمون الكيان، وأنهم هم من يوفرون له الغطاء، وأنهم من يروجون للتطبيع والعلاقات الديبلوماسية، أما وقد زال الحاكم في مصر فما مبررات بقاء كل هذه الأمور؟


وعلى عكس ما توقع البعض جاءت ردة فعل الكيان الصهيوني على الحدث باهتة، وهذا تصرف طبيعي لأن الكيان يدرك أن التصعيد هو مراد من قام بمهاجمة السفارة كما يدرك الكيان أن مبارك لم يعد موجوداً ليغطي على جرائم الاحتلال وأن المزاج الشعبي في مصر نزق وعصبي ولا يتحمل أدنى استفزاز من الكيان (بل وربما نجد من يتعمد الاستفزاز بالكيان كما فعل مهاجمو السفارة).
 يقف الصهاينة في عصر الربيع العربي أمام خيارات صعبة أحلاها مر، فهي تخسر حلفاءها وكل الضمانات الأمريكية تبدو بلا أدنى قيمة، وبدلاً من توسعها سياسياً واقتصادياً فهي تتراجع وتحاصر سياسياً شيئاً فشيئاً، وعلى المدى البعيد يتوقع أن يتطور هذا الحصار ليصبح حصاراً عسكرياً خانقاً، فهل تصمت أم ترد؟ من ناحية لا يستطيع الصهاينة السكوت والتظاهر بأن لا شيء يحصل، ومن الناحية الأخرى أي رد فعل سيستفز الطرف الآخر وسيسارع من عملية حصار الكيان والتحريض عليه عربياً.


يحاول الصهاينة التظاهر بأن ما يحصل في الدول العربية لا يعنيهم ولا يؤثر عليهم، وأنهم مع الديموقراطية ومع خيارات الشعوب، لكن كله كلام للتسويق الإعلامي، وكلام يخفي مخاوف حقيقية لأن الكيان يدرك أنه نبتة غريبة عن المنطقة، وأن وجود الكيان هو أحد عقدتين عانت منها الشعوب العربية طوال القرن الماضي، والعقدة الأخرى كانت الأنظمة الاستبدادية والفاسدة، وبعد تخلص الشعوب العربية من عقدة الأنظمة المستبدة الفاسدة فلا بد أنها ستلتفت للعقدة الأخرى، وإن كان هنالك مستعجلون لمعالجة عقدة الكيان مثل مهاجمو سفارة الكيان، فما يراه البعض مجرد هجوم لتنفيس الغضب هو مجرد البداية وما هو قادم أكبر وأخطر.


ومثلما يواجه الصهاينة خيارات صعبة تواجه حليفتهم الاستراتيجية خيارات صعبة (وإن لم تكن مصيرية مثلما هو الحال مع الكيان)، فأمريكا اختارت أن تنحاز للطرف الفائز وأن تدعم الثورات العربية وأن تبيع حلفاءها السابقين بثمن بخس، لكن الاختبار الحقيقي هو عندما تضطر للاختيار بين الثورات وبين الكيان، ولعل تصريح أوباما ليلة اقتحام السفارة وتهافت الإدارة الأمريكية لنصرة الكيان الصهيوني في هذه الأزمة هدم الكثير مما قامت الإدارة الأمريكية ببنائه والاستثمار به منذ إعلانها الانحياز إلى ثورات الشعوب العربية.


ما زالت أمريكا بعيدة عن لحظة الاضطرار إلى الاختيار، لكنها قادمة لا محالة وعلى الأرجح ستضطر أمريكا للتخلي عن حليفتها الاستراتيجية إن وجدت حزماً وقوة عربية وإن كانت حليفتها ضعيفة وغير قادرة على الانتصار والمقاومة.

 أما في الوقت الحالي فكل ما باستطاعة الكيان والأمريكان فعله فهو تأجيل لحظة الحقيقة، ومحاولة إطالة المرحلة الانتقالية وشراء الوقت، وإن كان هنالك دعوات داخل الكيان (وربما أبرزها ما قاله شاؤول موفاز قبل فترة) من أجل تدارك الوقت والتوصل إلى تسوية مع السلطة الفلسطينية قبل أن تواجه عدواً مصمماً وعنيداً (مثل من رأيناهم في غزوة السفارة)، لكن لم تترجم هذه الدعوات إلى فعل حقيقي وما زالت عنجهية الصهاينة تمنعهم من تقديم تنازلات تتيح التوصل لتسوية مع السلطة.




كل ما رأيناه حتى الآن من الصهاينة هو ابتلاع الإهانات القادمة من أسطنبول والقاهرة، بالإضافة لعدم الإقدام على اعتداءات واسعة النطاق على قطاع غزة، لكن السؤال كيف سيتصرف الصهاينة عندما تُسدّد إليهم اللكمات بدل الإهانات؟






ليست هناك تعليقات: