المستعرض لسيرة الشهيد محمود الطيطي يجدها زاخرة بالنشاط والعمل رغم عمره القصير الذي بالكاد تجاوز الاثنين والعشرين عامًا، فقد أمضى ثلاثة أعوام في سجون الاحتلال الصهيوني، وبعد خروجه من السجن استضافته سجون السلطة أكثر من مرة (ضمن سياسة الباب الدوار والتنسيق الأمني)، وكان يخضع لمحاكمة أمام محكمة تابعة للسلطة بتهمة نشاطه المقاوم للاحتلال.
لكن هذا لم يمنعه من أن يكون نشيطًا في مجال الدفاع عن
الأسرى وقام بمبادرة ذاتية بتشكيل الحراك الشبابي للأسرى والمحررين، وعمل على
تحريك قضيتهم إعلاميًا وبجهد ذاتي محض، وكان مما أنجز تواصله مع رئيس الوزراء
إسماعيل هنية من أجل حل قضية الأسيرة المحررة رانية السقا والتي تعاني من أمراض
مزمنة.
لقد كان ناشطًا شبابيًا حقيقيًا وليس مثل مدعي النشاط
الشبابي الذين نرى لهم ضجيجًا على الفيسبوك وفي بعض المسيرات السلمية وعند الجد
نراهم يفزعون ويهربون، كان نشيطًا على الفيسبوك هذا صحيح لكنه كان يترجم ما يدعو
له على الأرض ولم تكن تردعه إجراءات السلطة بحقه والتضييق الذي كانت تمارسه، كما
لم تردعه إجراءات المحتل من مواصلة دراسته الجامعية في التخصص الذي أحبه وهو
الصحافة والإعلام.
وكشف استشهاده جانبًا آخر من حياته العملية لم يكن
معلنًا (ولأسباب أمنية طبعًا) وهو مشاركته بالمواجهات ضد قوات الاحتلال وبرشق
الدوريات العسكرية بالحجارة، فليلة استشهاده تعطلت دورية للاحتلال وسط مخيمه، وكان
من بين المشاركين بمهاجمتها بالحجارة والزجاجات الفارغة، وكما يروي شهود العيان
فقد حاول الشهيد فتح باب الدورية المتعطلة وبدأ بسحب أحد الجنود من داخلها عندما
عاجلته رصاصات الاحتلال فاستشهد وأصيب عدد من رفاقه.
ولو تتبعنا الأحداث الأخيرة في الضفة الغربية لوجدنا أن
الشهيد الطيطي لم يكن استثنائًا بين أبناء ومؤيدي حماس، وقبله بأسبوع تقريبًا
استشهد محمد عصفور وهو أحد نشطاء حماس من قرية عابود شمالي رام الله، برصاصة أصيب
بها خلال مواجهات مع قوات الاحتلال.
ومن الصعب تتبع حجم نشاط مؤيدي حماس في هذه المواجهات
بدقة لأن الغالب عليها هو السرية والحرص على عدم الظهور لما فيه من خطر أمني، لكن
وجود شهيدين خلال فترة قصيرة، وقبلها عدد من الشهداء والجرحى لم يأت عبثًا، فلا
دخان بلا نار ومن الواضح أن هنالك شيء ما تحت السطح يجري في غفلة عن أعين الشاباك
وأجهزة أمن السلطة.
ما يلفت النظر في هذه الحوادث أنها تأتي رغم سبع سنوات
من حكم الإرهاب والتنسيق الأمني والاستنزاف حتى الرمق الأخير لقيادات حماس من
الصفين الأول والثاني وحتى الثالث اعتقالًا واستدعاءً وفصلًا من الوظائف، وملاحقة
كل دولار يصل لحماس في الضفة الغربية، وبتنسيق عالي المستوى وغير مسبوق بين السلطة
وسلطات الاحتلال، وفي ظل وجود حالة من الإحباط واليأس بين قطاعات داخل مؤيدي
وكوادر حركة حماس.
إلا أنه وفيما تلتهي السلطة والاحتلال بملاحقة الأسرى
المحررين والشخصيات المحروقة فإن الشهيد محمود الطيطي نبهنا إلى وجود حمساويين جدد
لم يكونوا جزءًا من المنظومة التقليدية أو بنك المعلومات التابع لمخابرات الاحتلال،
تأقلموا واعتادوا على إجراءات الاحتلال الصهيوني والسلطة، واستطاعوا أن يكيفوا
أنفسهم معها وأن يتقدموا صفوف العمل النضالي والكفاحي.
ومن الصعب ضبط هذه العناصر أو الكشف عنها وخصوصًا أن
بعضها ربما لم يعرف عن حماس سوى ما يسمعه من الناس والإعلام بدون أن يكون له
احتكاك تنظيمي حقيقي، وربما ما يصدم الاحتلال هو قدرة هذه العناصر على العمل دون
مرجعية تنظيمية (وخاصة في ظل ما تعرف به حماس من انضباط تنظيمي)، مما يصعب الأمر
على الشاباك بشكل كبير جدًا، وخاصة أن سياسته خلال السنوات العشرين الماضية كانت
التركيز على القيادات والكوادر المفصلية، وفي هذه الحالات لا لزوم لهؤلاء لوجود
عناصر صغيرة تتمتع بالقدرة على المبادرة والعمل بتوجيه ذاتي.
ولعل أخطر ما يواجه المحتل والسلطة في النموذج الذي قدمه
الشهيد محمود الطيطي هو أنه أثبت عمليًا (لا نظريًا) أن الاعتقال والملاحقة
المزدوجة (من السلطة والاحتلال) لم تستطع أن تقف بوجهه وهو يشق طريقه الكفاحي،
وبذلك أعتقد جازمًا أن الشاباك قلق للغاية من أن يكون الشهيد نموذجًا لغيره من
أبناء حماس ومشجعًا للمحبطين والذين يئسوا من العمل المقاوم.
ولعل حادثة الشهيد كشفت عوارًا في الماكنة الإعلامية التابعة
للسلطة والتي تحرص على نسبة المقاومة الشعبية لفتح والسلطة والعسكرية لحماس، فوجود
الشهيد في مقدمة عمل مقاومة شعبية أربكهم وحاولوا تبنيه ونسبته لفتح (كما هي
عادتهم) إلا أنهم اصطدموا بحقيقة أنه كان معتقلًا لدى أجهزتهم الأمنية، وحقيقة
فاستشهاده أربك حساباتهم بشكل كبير والحرج يظهر جليًا في الحملات الإعلامية
الساذجة التي يشنوها عبر الإنترنت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق