خرج الغراب يومًا يطلب دجاج الكنتاكي.
فرأى يمامة تحمل القمح الزاكي.
فقال لها: "كاكي كاكي لن أرضى بغير الكنتاكي."
ومضى يسير في الغابة الخضراءِ، يحلم بفراخ الكنتاكي.
مر اليوم وأدبر النهار وجاء الليل والغراب يقول للأحلام ما
أحلاكِ،
نام نومة قريرة وأحلامه تحلق في الأفلاك.
وفي الصباح رآه الهدهد فسأله: "هل أكلت الكنتاكي؟"
رد الغراب بثقة: "كلا، لكن كاكي كاكي لن أرضى بغير الكنتاكي."
"وماذا فعلت لتظفر بالكنتاكي."
حملق الغراب بغضب وقال له: "ماذا دهاك؟! أليس هذا
واجب البدر التمام؟ ولماذا هو يحلق في السماء عاليًا؟ إن قصر بحقنا في الكنتاكي،
فرب السماء سيعاقبه بالهلاكِ."
جاءه النسناس وقال له "جئتك بأزكى الأسماك."
فتعوذ الغراب من النسناس الخناس، وقال له بثقة ويقين: "كاكي
كاكي لن أرضى بغير الكنتاكي."
مر اليوم واليومان والغراب بلا طعام ولا ما يسد الرمق،
فاجتمعت الحيوانات وأرسلت له وفدًا عزيزًا بالحكمة ينضح.
وقف عند باب عش الغراب كبير الأفيال وقال له: "يا
بني، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولسنا نرضى أن نراك تتضور جوعًا،
فنريد أن نكون لك عونًا."
فرد الغراب: "أين الكنتاكي؟"
فصاح به الخرتيت: "وأين الكنتاكي يا هتيت؟ أترانا
ننهل منه ونمنعه عنك؟ شمر عن ساعديك، وتلك فراخ الدجاج اصطاد منها واصنع بها ما شئت!"
فقال الغراب: "ما هذه الشروط التعجيزية، أتريد مني
الذهاب إلى حيث الإنسان وألقي بنفسي إلى الردية؟"
فتدخل الثعلب المكار قائلاً: "لا تفكر ولا تحتار،
إن أردتَ أحضرت لك فورًا حليب المحار، لكن هل آتيك بالفراخ الفاخر، وأنت في عشك
فاجر؟ تعال معي وسأكون لك من العدو خير ساتر."
فرد الغراب وقال: "كاكي كاكي لن أرضى بغير الكنتاكي."
ثم وقف خطيبًا فصيحًا، وعن وجهة نظره بدى فهيمًا: "يا
معشر الحيوانات من طلب منكم العز مات، كل ما طلبته فرخٌ أمه الدجاج، فهل طلبت
الذهب الوهّاج؟
يا قوم ذوات الأربع، إن أسلافنا الطيور الأرفع، في زمن
القمر المربع، لم يكونوا يأكلون أقل من فراخ الكنتاكي، ولم يكن أحد من أسلافكم
يجرؤ أن يكاكي.
لذا أعيدها عليكم وأقولها صرخة مدوية: كاكي كاكي لن أرضى
بأقل من الكنتاكي.
وإنها لقضية مبدأ وليست العبرة بالعظام، ولا باللحم ولا
بكل ما في الدنيا من حطام، فكيف يرضى البدر التمام أن يتربع في عرش السماء وفي الأرض
من يعاني من قلة الكنتاكي."
وتولى القوم وعادوا إلى غابتهم غاضبين على غراب البين
ساخطين، ولولا بعض المشفقين لتركوه في حاله يلاقي مصيره المحتوم، فكان كل يوم يطل
عليه قرد البابون فيضع يده على رأسه عله يخفف من آلام البطون.
وفجأة في يوم إضرابه العاشر بعد العشرين، وإذا بالبدر
التمام يهلّ على الأنام، فقفز غراب البين من عشه الوثير ووقف أمام البدر الكبير،
وقال له: "يا هذا اسمع، إننا لك لن نخضع، وأنا أقف أخطابك باسم كل طيور
وحيوانات الغابة، ونقولها صريحة وبدون أي مهابة، أن تأتينا بدون دجاج الكنتاكي فهي
إهانة ما بعدها إهانة.
اسمع جيدًا يا أيها البدر التمام يا زعيم اللئام، إما أن
تحضر لنا الفراخ بشهادة الأنام، وإما أن تعتزل السماء وتذوق الموت الزؤام.
اسمع جيدًا يا بدر الحرمان، إنني أنا الفارس الهمام،
يشهد لي الميدان وأرض الشام، وإني أقولها بلا مواربة أو مداراة: عن الكنتاكي لن
أتنازل حتى لو دسوني في التراب بلا مواراة".
لم يرد عليه البدر التمام وقال في نفسه: "هذا ما
كان ينقصنا قوم الغربان"، فغضب الغراب واحتد وقال: "يا بدر اسمع وافهم
إن لم تنزل من عليائك في الصباح القادم، فإنني عن الماء أيضًا صائم".
وأضرب غراب البين عن الماء، وبقي في عشه بلا مراء،
طاردًا كل من يوسوس له بشربة ماء، وبينما هو يهيم بالبرية فإذا أمامه جرادة مقلية،
أراد أن يهم بها، لولا أن رأى من السماء برهان ربه، فأصر على السير في دربه،
والشمس لم تلين له رأسه، وسمعه القوم وهو يهذي: "كاكي كاكي يا دنيا ما
أقساكِ".
وبعدها مات تعيس الدارين، وحزنت الحيوانات عليه يومين،
دون أن تدمع عليه عين، فلم يكن في حياته أكثر من غراب بين.
هناك تعليقان (2):
معبرة وجميلة جدا
شكرًا لك وبوركت. :)
إرسال تعليق