الأحد، 10 مارس 2013

وزارة الأسرى وقرارها معاقبة الأسرى



تظهر الصورة أعلاه قرارًا قامت وزارة الأسرى التابعة لسلطة رام الله بتعميمه على المحامين المسؤولين عن زيارات أهالي المعتقلين لأبنائهم في سجون الاحتلال، (ولا أعلم ما علاقة الوزارة بالزيارات كون الصليب الأحمر هو الذي يتولى ترتيبها)، وينص على معاقبة الأسير الذي يحاول تهريب أغراض (وتحديدًا الجوالات) إلى داخل السجن بقطع راتبه الشهري الذي يتقاضاه من الوزارة وبعدم اعتبار والدته أو زوجته أسيرة في حال سجنها الاحتلال وهي تحاول تهريب الجوال للأسير.
 
سبب القرار:


وحتى نكون منصفين فقرار الوزارة يأتي من خلفية التضييق الذي يمارسه الاحتلال على أهالي الأسرى بسبب محاولات التهريب هذه، وبسبب عدم المسؤولية التي يتحلى بها بعض الأسرى فيلجأون لطرق غير متقنة للتهريب مما يؤدي لانكشافهم واعتقال أهلهم والتضييق على باقي الأسرى، فيأتي هذا القرار لمعاقبة من تعتقد الوزارة أنه يتسبب بالأذى لزملائه الأسرى، ولا أظنه سيطبق فعليًا لما فيه من عقوبات قاسية لا يطبقها الاحتلال نفسه، كما أن الوزير عيسى قراقع هو من القلة (وربما الوحيد) التي يمكن وصفها بالوطنية داخل حكومة فياض بالإضافة لكونه أسيرًا محررًا يجعله أقرب للأسرى وفهم قضاياهم.

لذا سننطلق من مناقشة قرار الوزارة من هذه الزاوية أي الرغبة بتجنيب الأسرى المزيد من العقوبات، فسجن الأم أو الزوجة لأسابيع أو أشهر أو أيام، وعقوبة العزل في الزنازين للأسرى، والتنكيد اليومي للأسرى داخل غرفهم بحجة التفتيش عن جوالات (وهي معاناة حقيقية لا يحس بماهيتها إلا من مر بها)، كلها أمور ومبررات تبدو معقولة من أجل القول لا نريد جوالات داخل السجون.

فكلام الأسير عبر الجوال مع أهله لربع ساعة في اليوم أو تصفحه الإنترنت ووضعه صورًا على الفيسبوك كلها رفاهية لا تبرر الثمن الباهظ الذي يدفعه الأسرى يوميًا مقابل ذلك، وقد دفع بعضهم حياته من أجل ذلك مثل الشهيد محمد الأشقر الذي استشهد عام 2008م أثناء تصديه مع زملائه الأسرى لمحاولة فرقة خاصة تابعة لإدارة سجون الاحتلال اقتحام قسمهم في سجن النقب فجرًا من أجل البحث عن الجوالات ومصادرتها، فضلًا عن التكلفة المادية الباهظة لتهريب الجوالات والتي قد يصل ثمن الواحد منها في بعض الظروف إلى 15 ألف دولار!

هذه وجهة نظر معارضي تهريب الجوالات وهي منطلق وزارة الأسرى في قرارها هذا، وهنالك بعض الأسرى يفكرون بنفس الطريقة لكنهم يمثلون أقلية، والسؤال ما دام الثمن غاليًا مقابل اقتناء جوال فلماذا يقدم أغلبية الأسرى على هذه المغامرة، وهنالك لجان وأجهزة ينشئها الأسرى لتتولى أمر تهريب الجوالات وإخفائها داخل الغرف (طرق يعجز الجن عن التفكير بها كما يقولون)، فما السر وراء ذلك؟

لماذا يهرب الأسرى الجوالات؟

الدافع الأول للتهريب هو التواصل مع الأهل، وتستخدم الجوالات أيضًا للتصوير وللتعامل مع الفيسبوك والإنترنت، في ظل حقيقة أن أغلب الأسرى لا يزورهم أهاليهم بانتظام، ففي حين يضمن قانون مصلحة السجون للأسير زيارتين في الشهر (مدة كل منها نصف ساعة)، إلا أن الغالبية العظمى يزورون بمعدل مرة واحد فقط في الشهر على الأكثر، والكثير يحصل أهاليهم على تصريح زيارة لمدة ثلاثة شهور وبعدها يقضون ثلاثة شهور أخرى بدون زيارة ينتظرون التصريح الجديد، هذا ناهيك عن الممنوعين أمنيًا من الزيارة فلا يزورهم أهاليهم إلا مرة كل عام أو عامين والبعض لم يزره أهله منذ أعوام طويلة.

طبعًا الرغبة بالتواصل مع الأهل لا تفسر تمامًا هذه الرغبة الجامحة بامتلاك الجوالات وتهريبها، وخصوصًا أن الثمن المدفوع باهظ ماليًا وجسديًا ونفسيًا، فهنالك عامل أكثر أهمية وهو رفض الأسير الخضوع للأمر الواقع الذي يفرضه المحتل، وأغلب الأسرى عندما كانوا يقاومون الاحتلال كانوا يعلمون أنهم سيدفعون ثمنًا باهظًا مقابل ذلك لكن استمروا بالطريق.

عندما يلقي الشاب زجاجة حارقة على دورية للاحتلال أو سيارة مستوطنين فهو يدرك أن هذه الزجاجة قد تكلفه خمس أو ست سنوات من عمره على أقل تقدير لكنه مع ذلك حملها وألقاها واستمر بمقاومة الاحتلال حتى وقع بالأسر.

المشهد بمنظار أوسع:

وإذا أردنا أن ننظر إلى الصورة بمنظار أوسع فهذه معادلة طرحها الاحتلال منذ عام 1948م فاعتمد على سياسة الردع وارتكاب أبشع الجرائم ردًا على أدنى مقاومة حتى يصل الفلسطيني والعربي إلى مرحلة يتخلى عن أي حلم بتحرير فلسطين أو محاربة المحتل.

وأغلب المجازر التي ارتكبها الصهاينة في الخمسينات: خانيونس وقبيا والسموع وقلقيلية وغيرها، كانت بسبب قيام بعض اللاجئين بالتسلل إلى قراهم التي هجروا منها وحصاد بعض مزروعاتهم أو "سرقة أبقار" مما استولى عليه المستوطنين الصهاينة أو على الأكثر تخريب بعض الممتلكات كي لا يستفيد منها الصهاينة، فكان الرد قويًا وصادمًا حتى يجبروا حكومتي الأردن ومصر على منع أي فعل مقاوم.

ولقد تنبأ تقرير لجهاز السي آي أيه عام 1948م أن لا تعيش "دولة إسرائيل" لأكثر من عامين وأن تنهار تحت ضغط حرب العصابات التي سيشنها عليها العرب، لكن بدلًا من خوض حرب العصابات وقفت الأنظمة العربية حارسًا أمينًا على الحدود مع فلسطين المحتلة عام 1948م بحجة تفويت الفرصة على الصهاينة ومما ذكره لي بعض من عايش فترة الخمسينات أن الشرطة الأردنية ألقت القبض على مواطنين تسللوا إلى داخل الكيان الصهيوني و"سرقوا" بقرة من احدى المستوطنات، وأن رجال الشرطة كانوا يضربون أولئك "الأبطال – اللصوص" وسط الشارع بكل قسوة، طبعًا ليس حبًا في الصهاينة وإنما خوفًا من بطش الصهاينة وردود فعلهم.

وما زلنا نعاني حتى اليوم من عبقرية أولئك "العقلانيين" الذين أرادوا تجنيب الناس بطش الصهاينة بعيد النكبة، فقوي عود الصهاينة واحتلوا باقي فلسطين، ودفعنا حتى اليوم أكثر من ربع مليون شهيد فلسطيني وعربي والحبل على الجرار كما يقولون، وما كان بالإمكان إزالته بحرب عصابات وبضعة آلاف من الشهداء، أصبح من أقوى الكيانات العسكرية في العالم والله أعلم كم سيكون ثمن إزالته.

واليوم السلطة الفلسطينية في الضفة تمارس التنسيق الأمني مع الاحتلال الصهيوني خوفًا منه، وبسبب نفس الحسابات "العقلانية"؛ فلا يعقل أن نسمح بضرب زجاجة حارقة يقابلها اعتقال وإغلاق وانتقام وتكسير وتحطيم أو تنفذ عملية مسلحة يتلوها حصار وحواجز وإغلاقات وقطع رواتب، والنتيجة هي ما نراه في الضفة: توسع مسعور للمستوطنات وسلطة تحرس على أمن المستوطنين.

وبالتالي كان من الطبيعي أن يصدر مثل هذا القرار عن وزراة الأسرى فهو يأتي في نفس سياق فلسفة السلطة "العقلانية" ومن قبلها فلسفة الأنظمة العربية "العقلانية"، وياليتها أنقذت باقي فلسطين أو منعت المزيد من الاحتلال والتوسع الصهيوني.

مقاومة الاحتلال لها ثمن:

أي حركة تحرر وطني لها ثمن باهظ، وأي حركة تضع الحسابات العقلانية أمامها عند الكلام عن الثمن المدفوع فهي تحكم على نفسها بالفشل؛ في الجزائر مليون شهيد مقابل بضعة آلاف قتلى من الفرنسيين، في فيتنام مليوني قتيل فيتنامي مقابل 58 ألف قتيل أمريكي، وكذا كان ثمن طرد الاحتلال من غزة وأسر شاليط، فماذا لو وضعت هذه الحسابات "العقلانية" أمام أعينهم؟

في الحرب العالمية الثانية عندما غزا هتلر الاتحاد السوفياتي استخدم قوة مفرطة وكان أمام الروس خيار الاستسلام لكنهم حاربوا وكان ثمن انتصارهم حوالي 30 مليون قتيل، مقابل 6 ملايين قتيل ألماني سقطوا على كافة الجبهات (وليس الجبهة الروسية فقط).

واليوم في سوريا نجد النظام ينتقم أشرس الانتقام من أي مدينة أو حي يؤوي الثوار، وبعض الفلاسفة من أشباه الثوار أو الذين يقفون على الأعراف فلا هم مع النظام ولا مع الثوار يطالبون الثوار بالخروج من المدن كي لا يقصفها النظام، وهذا معناه وقف الثورة وأن يعيش الشعب السوري حياة ذل ومهانة لخمسين عامًا قادمة، ولسان حال الشعب السوري سندفع 70 ألف شهيد أو 100 ألف في ظرف عام أو عامين، بدلًا من أن ندفعهم بالتقسيط في حال استسلمنا أمام بطش النظام.

عندما يكون عدوك متوحشًا ومجرمًا ويعتدي على حقك فأمامك خيارين: إما أن تستسلم له بشكل تام وتقول له تنازلت لك عن كل شيء ولو طالبك بالمزيد فيجب أن تقدمه له، وإما أن تحاربه بكل ما لديك من قوة وإمكانيات وأن تتحمل الثمن مهما كان باهظًا وفي نهاية المطاف ستصل، ولا وجود لخيار ثالث.

ليست هناك تعليقات: