ثار جدل طويل في الأيام الماضية حول مهرجان انطلاقة فتح الذي عقد في ساحة السرايا يوم الجمعة الماضي، حيث سبقته معارضة في صفوف مؤيدي حركة حماس رأوا فيه خطأً كبيرًا وساقوا مبررات لآرائهم مثل أنه مكافأة لفتح في الوقت الذي ترتكب فيه الانتهاكات في الضفة، وأنه تطهير لحركة فتح وصك براءة لها، وأنه سيكون فرصة لأعمال شغب يقوم بها الفتحاويون ضد الأجهزة الأمنية (مستذكرين مهرجان إحياء ذكرى عرفات عام 2007م وسقوط قتلى وجرحى وقتها)، وأخيرًا تكلم البعض عن مخاوف من اقتتال ودماء تسيل بين مؤيدي دحلان وعباس في المهرجان.
وبعد عقد المهرجان والذي لقي مشاركة جماهيرية
واسعة، رغم الفشل التنظيمي الذريع للمهرجان، توجه النقاش باتجاهات أخرى مثل من
"تفاجأ بالحشد الفتحاوي" ولام حكومة غزة لأنها سمحت لفتح بأن تستعرض
عضلاتها، ومثل من حاول أن يثبت مخاوفه بحصول اقتتال وأعمال شغب وكان يتصيد حادثة
هنا وهناك ويتتبع الإشاعات حول حصول شجارات واعتداءات وإنزال عن المنصة وزجاجات
حارقة وأكواع وأحداث تم تضخيمها وأحداث لم تحصل من الأصل.
بداية لقد أعطي المهرجان أكبر من حجمه بالنقاش،
وكأنه حدث جلل ستتغير بناء عليه مصير أمة بأكملها، فيما هو مجرد مهرجان وهو بحد
ذاته ليس شيئًا مهمًا، والشيء الوحيد المهم فيه هو أنه مؤشر على قوة التنظيم أو
على صواب طريقه (كما يحاول مؤيديه المحاججة).
وسواء حشد مئة ألف أو مئتين أو مليون فالأرقام
لا تهم في هذا المقام، لأنه لا يعني أن تنظيم فتح قد امتلكهم وأصبحوا رصيدًا
أبديًا له ثابتًا ومن يحشد اليوم مئة ألف قد لا يستطيع في الغد حشد بضع مئات،
المهم ما هو رصيدك كحركة أو تنظيم في خدمة الشعب الفلسطيني وقضيته، فهذا سيضمن
ديمومة وجودك على الأرض مهما كانت الكبوات هنا أو هناك.
لذلك بدلًا من الاعتراض على السماح لفتح بأن
تستعرض قوتها وجماهيريتها، أو بدلًا من الدخول في جدل عقيم حول العدد (لأنه لا فرق
لو كان العدد نصف مليون أو مئة ألف أو حتى خمسين ألف فمن الواضح أن لفتح شعبية
قوية) فليسأل نفسه لماذا فتح ما زالت قادرة على حشد الناس؟ ولماذا حماس فشلت باستمالة
هؤلاء الناس؟ لا أقول أن جماهير فتح أكثر من جماهير حماس ولا العكس (هذه لا تحسمها
إلا صناديق الانتخابات)، لكن هنالك واقع وأن فتح لها شعبية قوية وهذه الحقيقة لن تختفِ
لو منعت فتح من إقامة المهرجان، لن تمنع محبة من يحب فتح إن منعت المهرجان بل على
العكس قد تدفعه للمزيد من الحب والتمسك (فقط عنادًا وجكرًا).
لذلك ومنذ البدء كان من الخطأ الاعتراض على عقد
المهرجان أو لوم حكومة غزة لأنها سمحت به وتعاطت معه بإيجابية، فلا الحدث يستحق كل
هذه الجلبة (مجرد مهرجان لا أكثر)، ولا منعه سيقطع أسباب التأييد الجماهيري لفتح.
وبالمقابل ما أنجزته حماس في رأيي هو أكبر من
ذلك بكثير ويمكنني أن ألخصه بالآتي:
أولًا، أثبتت حكومة حماس أنها حكومة كل الشعب الفلسطيني، وأنها تعلمت من أخطاء
الماضي، وليس فقط من خلال المهرجان بل أيضًا من خلال المصالحة المجتمعية في غزة
ومن خلال السماح بعودة الهاربين من فتح، وهذا ما فشلت به سلطة فتح بالرغم من
وجودها أكثر من 18 عامًا بالحكم.
الحكومة من واجبها أن تعامل كل الناس بسواسية
وأن تقف على مسافة واحدة من الجميع، بمن فيه من يعارضها ويبغضها ويكرهها، ليس حبًا
فيه ولا كرم أخلاق من الحكومة، بل هذا هو واجبه، وحماس نجحت بهذا الامتحان وبجدارة
وأثبتت أنها قادرة أن تكون حكومة للجميع وأن تكون حكومة ديموقراطية حقيقية (وليس
كما يصفها خصومها بأنها استغلت الانتخابات للقفز على السلطة وإقصاء الآخرين).
وباعتقادي أن هذا أهم إنجاز لحماس، فأن تثبت
بالممارسة أنك الأقدر على الحكم وإدارة حكومة بشكل ديموقراطي وسليم، هو تحد كبير
في عالمنا العربي.
ثانيًا، لقد استطاعت حكومة غزة أن تتجاوز كل التحديات الأمنية، والمخاوف من حصول
مواجهات واحتكاكات سواء بين أجهزتها ومؤيدي فتح، أو بين المشاركين أنفسهم، فلم نر
حمامات الدماء التي "بشرنا بها" أصحاب النظرات السوداوية، وهذا لم يأت
عبثًا ولم يأت مصادفة.
ثالثًا، قدرة الحكومة على إقناع حركة فتح بنقل مكان الاحتفال من الكتيبة إلى
السرايا، بالرغم من المعارضة في البدء، يعني أنها قادرة على التعامل مع الجميع ولديها
القدرة على إقناع الآخرين (بمن فيهم الخصوم) بوجهة نظرهم، وهذه ملكة مفقودة عند
الكثيرين.
رابعًا، لقد أثبت المهرجان أن استقبال هنية للرجوب وأن حرص حماس على المصالحة مع
فتح بالرغم من كل تجاوزات السلطة في الضفة، واستقبال أبو علي شاهين وغيره من
الوجوه الفتحاوية غير المقبولة حمساويًا، كان في مكانه، وليس فرصة أو مكافأة
تعطيها حماس لمن لا يستحق كما يصوره البعض، لماذا؟
لأن المهرجان أثبت أن لهذه الشخصيات مؤيدوها
(ولدحلان مؤيدون كما رأينا من يرفعون صوره) وأن لحركة فتح جذور في المجتمع
الفلسطيني، ورفض التعامل معهم يعني أن تقسم الشعب نصفين، عندما ترفض التعامل مع
عباس أو الرجوب أو من شئتم من قيادات فتح، أنت ستدخل بصدام مع جزء كبير من الشعب
الفلسطيني، حماس تحترم الرجوب أو عباس ليس لشخصه لكن احترامًا لمن يمثلوهم من
قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني.
سيقول البعض وعلى أي أساس يؤيدونهم؟ ولماذا
يؤيدونهم؟ حسنًا تفضلوا وأقنعوهم، أقنعوا تلك الجماهير أن عباس سيء وأن الرجوب
سيء، وأنه يجب أن يرحلوا، بالنسبة لي أنا مقتنع، لكن هل أقنعتم هؤلاء الناس؟ هل
جربتم إقناعهم بالتي هي أحسن؟ كيف ستخاطبوهم بالتي هي أحسن وأنتم ترفعون شعار
"لا تصالح"؟ كيف ستخاطبوهم بالتالي هي أحسن وأنتم تقدمون خطابًا
يشيطنهم؟
هنالك فشل من ناحية حماس بالوصول إلى جميع
قطاعات الشعب الفلسطيني، صحيح هي وصلت لقطاعات واسعة، لكن ما زال هنالك قطاعات لم
تسمع صوت حماس بالشكل الصحيح، وهنالك تقصير في ذلك سواء من الحركة أو من مؤيديها
الذين يكتفون برفع شعار "لا تصالح"، طيب توجهوا لتلك القطاعات وتكلموا
عنها وتوقفوا عن مخاطبة أنفسكم!!
خامسًا، أثبتت هذه الجماهير وما كانت تهتف من شعارات وتردد من أغاني أنها مع خط
المقاومة، والمقاومة المسلحة، وأنها مع كامل الحق الفلسطيني من النهر إلى البحر،
وهذا هو خيار حماس وليس خيار عباس، وبالتالي فما نجح بالمهرجان هو خيار حماس، حتى
لو كانت حناجرهم تهتف لعباس.
لكن دماء الناس البسطاء التي خرجت هي مع المقاومة،
ولقد رأيناهم بالضفة كيف خرجوا لنصرة غزة أثناء الحرب الأخيرة، فحركة فتح نزلت
للميدان وشاركت إلى جانب غيرها بمظاهرات نصرة غزة، القادة لم ينزلوا وكانوا يقبعون
في جحور التنسيق الأمني، لكن الجماهير الفتحاوية كانت في الميدان تحارب من أجل
خيار المقاومة خيار حركة حماس.
قد يقول المرء ما هذا التناقض: يؤيدون محمود
عباس ومحمد دحلان ويؤيدون المقاومة وتحرير كامل فلسطين؟ حسنًا هذه فتح أم
المتناقضات، فتح التي وقف يومًا عرفات أمام المتحدة ليقول الميثاق الوطني
الفلسطيني ملغي، وبعد أسبوع قال أمام احتفال لمسلمي جنوب أفريقيا (وهو يلوح بمسدس
في يده): لا يحرر فلسطين إلا الجهاد.
من يريد أن يحل مشكلة "رجل فلسطين المريض"
(حركة فتح)، يجب أن يفهمها بكل تناقضاتها وأن يفهم تركيبتها الداخلية ونفسية
مؤيديها ومناصريها.
الكثيرون يبحثون عن عيوب حركة فتح مع أنها ظاهرة
للعيان ولا تحتاج للبحث، ولا أحد تقريبًا يبحث عن علاج لحركة فتح، ولسان حال
الجميع لتذهب فتح إلى الجحيم، غير مدركين أن فتح إن ذهبت للجحيم فلن تذهب وحدها بل
ستجر كل الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية معها بكل أسف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق