لا شك أن الأحداث المتصاعدة في العراق تختلف جوهريًا عن الحركة الاحتجاجية التي انطلقت في شهر شباط (فبراير) عام 2011م وامتدت لعدة أشهر قبل أن تخبو جذوتها ويتضاءل حجمها حيث بقي ذلك الحراك نخبويًا ولم يستطع الوصول إلى القواعد الشعبية ولم تتفاعل معه أي من الأحزاب السياسية الرئيسية، وبدت في حينه أقرب إلى أن تكون محاولة محاولة لتقليد الثورة المصرية والاقتداء بها، على عكس اليوم حيث تبدو حراكًا جماهيريًا متجذرًا صاحب مطالب واضحة.
كما يختلف الحراكان العراقيان (الحالي وحراك
2011م) عن الثورات العربية من عدة نواحي تجعل مقاربة دراسته مختلفة والحلول الممكن
تناولها مغايرة وخاصة بالوضع العراقي، واختلاف العراق عن باقي بلدان الربيع العربي
(وغيرها) تكمن بالنقاط الآتية:
1-
لا يوجد نظام مركزي قوي مهيمن في العراق، فنظام صدام حسين الشمولي انتهى
وخلفه نظام جديد ما زال في طور التشكل، ولم يأخذ مداه ليستبد ويحكم السيطرة على
الدولة والمجتمع، وإن كانت نوايا الاستبداد واضحة ولا تخفى عن العين، وهو ليس
استبدادًا طائفيًا فحسب بل هو استبداد شخصي أيضًا يتمثل بشخص نوري المالكي.
2-
في العراق مساحة جيدة من حرية التعبير والأحزاب السياسية الفاعلة (مقارنة
بالأنظمة الاستبدادية الأخرى)، ويوجد هياكل سياسية تصلح لأن تكون دولة ديموقراطية
تعددية حقيقية لكنها بحاجة لإصلاح، فالنظام العراقي ليس بحاجة لإزالة (لأن أساسه
ديموقراطي وهنالك محاولة لتجييره إلى استبداد جديد)، وهو أيضًا ليس قويًا بما فيه
الكفاية حتى تكتفي الجماهير بمطالب محدودة ومتواضعة.
3-
منذ الاحتلال الأمريكي للعراق وهو مقسم طائفيًا وتحكم حياته السياسية
والاجتماعية حسابات طائفية عملت على إذكاء الفساد داخل الدولة، فلا يمكن محاسبة أي
فاسد لأنه سيكون مدعومًا من طائفة وهذه الطائفة لن تسمح بمحاسبته حتى لا تقوى
الطوائف الأخرى، فالعراق تحول عمليًا بعد الاحتلال الأمريكي إلى إقطاعيات نفوذ
طائفية مما حول عملية إعادة بناء الدولة العراقية إلى واحدة من أكبر عمليات الفساد
والإفساد في العالم.
4-
في ظل النظام السياسي العراقي الموجود تحتل الحسابات الطائفية مكانة متقدمة
في الحسابات السياسية، وهذا ما يمنع التيار الصدري (مثلًا) من الانضمام إلى الحراك
الشعبي العراقي ويجعله محصورًا عمليًا بالشارع السني، بالرغم من قيادة التيار
الصدري تدرك الأخطار التي تواجه العراق من استبداد المالكي ومن خطر انفلات الوضع وتفكك
العراق، وهذا يجعل الحراك الشعبي العراقي محدودًا على قطاعات معينة من الشعب
العراقي وليس تعبيرًا عن كامل الشعب كما هو في سوريا أو مصر أو تونس أو ليبيا.
5-
نلمس من الحراك الشعبي في الأنبار والمناطق السنية تنظيمًا أكبر ووجود
أحزاب وتيارات وقيادات سياسية حاضرة وبقوة، على عكس الثورتين السورية والليبية
اللتان شهدتا تفريخ عدد لا نهائي من الكتائب الثورية والأحزاب السياسية، ذلك لأن
أكثر من 40 عامًا من الدولة المستبدة الشمولية دمرت الحياة السياسية داخل البلدين
فوجد الشعب نفسه بدون خبرة بالعمل السياسي وبدون قيادة واضحة مؤهلة للاستلام، أما
في العراق فإن السنوات التي تلت سقوط صدام حسين سمحت بنشوء طبقة سياسية وتنظيمها.
في ظل هذه الاختلافات فمشكلة العراق ليست إزالة
رأسًا فاسدًا يخرب البلد، لأن الرأس الفاسد في العراق هو نتيجة لنظام طائفي فاسد
انتجه، والرأس في العراق لا يسيطر على كل شيء في العراق بقدر ما هو طرف قوي في
المعادلة العراقية (بكل تأكيد هو يسعى للسيطرة التامة)، فالمطالبة بسقوط المالكي لن
تحل المشكلة وبقاؤه ليست المشكلة.
العراق يحتاج لتصحيح مسار والتخلص من الحسابات
الطائفية الضيقة التي ذبحته فسادًا وإفسادًا خلال السنوات الأخيرة (كما ذبحته
قتلًا وصراعًا خلال سنوات الاحتلال الأمريكي)، ويحتاج لبناء قيادة غير مركزية
للدولة وتقييد الصلاحيات وعدم السماح بظهور مستبدين جدد، ولعل قرار مجلس النواب
العراقي يوم أمس السبت بتحديد ولايات رئيس الوزراء بولايتين غير قابلة للتمديد هو
خطوة صغيرة في هذا الاتجاه.
يجب أن يدرك العراقيون وطبقتهم السياسية أنه لا
يمكن الاستمرار بدون تعايش بين جميع مكوناته، والجميع سيخسر في حال انحدر نحو نزاع
طائفي أو مناطقي، وحتى تقسيم العراق إلى دويلات لن يحل المشكلة كونها ستكون دويلات
متصارعة وكون الكثير من مناطق العراق مختلطة وستجد أعدادًا كبيرة من العراقيين
أنفسهم في دويلة يكونون بها أقلية مضطهدة.
كما يجب الإدراك أن إدارة العراق يجب أن تكون
إدارة جماعية لا مركزية، لا يمكن فيها أن تغلب جماعة جماعة أخرى أو أن تبيد طائفة
طائفةً أخرى، لكن السؤال هل هذه المعادلات قابلة للتحقق؟ وهل نستطيع أن نرى بعد 5
سنوات عراقًا قويًا وغير طائفي؟
مؤشرات إيجابية:
أولًا، الجيش العراقي ليس كامل التسليح وليس كامل الولاء للمالكي (هنالك فرق
وألوية كاملة الولاء لكن ليس كله).
ثانيًا، أجهزة الدولة ليست كلها في صف المالكي فعلى سبيل المثال مجالس المحافظات
في المناطق السنية كلها تدعم الحراك الشعبي.
ثالثأ، والشعارات والمطالب المرفوعة هي ذات طبيعة إصلاحية بالدرجة الأولى وتصب في
الهدف الذي تكلمنا عنه (عراق لجميع العراقيين).
رابعًا، هنالك بعد ومسافة بين الحراك وبين الجماعات الطائفية السنية والتي عملت
على إذكاء الفتنة مع نظيرتها الشيعية في السنوات السابقة، صحيح قد يجد مؤيدو
المالكي شعارًا طائفية أو كلمة توتيرية هنا أو هناك لكن أتكلم عن قيادة الحراك وعن
المطالب والشعارات الأكثر بروزًا وحضورًا.
مؤشرات سلبية:
أولًا، المالكي ومن يصطف معه ما زالوا غير مدركين (ولا يريدون الاعتراف) بأنهم لا
يستطيعون الاستفراد بحكم العراق، ويظنون أنها موجة وستزول وسيكملوا طريق الهيمنة
على العراق.
ثانيًا، تلعب الحسابات الطائفية دورًا معطلًا في انضمام جماعات شيعية للحراك
الشعبي بشكل قوي وفاعل وخصوصًا تيار الصدر الذي يحاول مسك العصا من المنتصف، فلا
هو يريد ترك طائفته والحسابات الطائفية ولا هو يقبل بالمسار الذي يسير نحوه
المالكي.
ثالثًا، للمالكي وحزب الدعوة لهم وزنهم في الشارع الشيعي وهم أقدم الأحزاب الشيعية
وأقواها نفوذًا وحضورًا وهذه القوة قد تغريهم بالاستمرار والمضي قدمًا نحو الصدام
والتصعيد.
رابعًا، فوجود أطراف غامضة تمارس سياسة الاغتيالات التي استهدفت قيادات في الحراك
الشعبي (وصدرت على إثرها بيانات باسم القاعدة تتهمهم بأنهم من الصحوات والسؤال
لماذا تذكرتم الصحوات الآن وسط الحراك الشعبي؟)، وتلتها تفجيرات في مناطق شيعية
يساهم باستمرار التوتر الطائفي والاستقطاب داخل العراق بما يهدد الحراك الشعبي
ذاته.
في الختام:
بين المؤشرات الإيجابية والسلبية تبدو الطريق
واضحة فهل تعلمت الأطراف العراقية الدرس؟ وهل يمكن تمرير الإصلاحات المطلوبة
(وتطبيقها حيث أن التطبيق هو التحدي الحقيقي)؟ نرى في الأفق بارقة أمل، ولا نملك
غير التمسك بها لأن لدى العراق خيارين بديلين: إعادة إنتاج نظام استبدادي على نمط
النظام الصدامي وربما أسوأ، أو انزلاق العراق نحو احتراب أهلي وتفتته إلى دويلات
أو تحوله إلى دولة فاشلة (أصلًا هو قاب قوسين أو أدنى ليكون دولة فاشلة).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق