يخرج علينا الإعلام المقرب من محمود عباس بتسريبات عن تهديداته بالاستقالة أو حتى حل السلطة، كما تكلم أحمد قريع علنًا في أكثر من مناسبة عن احتمال تبني خيار الدولة الواحدة (للفلسطينيين واليهود) بدلًا من خيار الدولتين، محاولًا أن "يبتز الصهاينة" الذين يحرصون على يهودية دولتهم وتقليل عدد الفلسطينيين، وأخيرًا نسمع الكثير من التحليلات المسربة بتوجيه من مسؤولي السلطة والتي تحذر من انهيار السلطة في حال لم يتجاوب معها الاحتلال وصعود حركة حماس بدلًا منها.
إلا أن كل هذه التهديدات والتحذيرات تذهب أدراج
الرياح، وتستمر الحياة كما هي في الضفة الغربية، ويستمر الاستيطان، ويستمر احتجاز أموال
السلطة، وتستمر الاعتقالات، وتستمر عملية تهويد القدس والاستيلاء التدريجي على
الأقصى، والسؤال المطروح لماذا لا يهتم الصهاينة بهذه التهديدات والتحذيرات؟
من الواضح أنك عندما تقول أن لا حق لك بالعودة
إلى فلسطين المحتلة عام 1948م، وأن فلسطين هي فقط الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك
بعد أن كان حق العودة مطلبك طوال سنوات، وبحجة أن الصهاينة متعنتين ولا يرضون
بعودة اللاجئين، فأنت ترسل لهم رسالة تقول لهم: إن تعنتم في مسألة الأقصى
والاستيطان فإننا سنقدم على تنازلات جديدة واصلوا تعنتكم.
وعندما يستمر التنسيق الأمني بالرغم من قطع
الصهاينة لرواتب هذه الأجهزة (أموال الضرائب المحتجزة) نسأل لماذا يقلق الصهاينة؟ كل
ما يريده الصهاينة هو الهدوء بالضفة الغربية وأن يستمر الاستيطان وفرض الواقع على
الأرض بدون إزعاج، وهذا ما يحصلون عليه ومجانًا من هذه الأجهزة، التي استمرت
بالتنسيق الأمني حتى في ذروة انتفاضة الأقصى عندما كان الصهاينة يقصفون مقار هذه
الأجهزة.
تصوروا أنّ الإضرابات تشمل مدارس الضفة وجميع
المؤسسات الحكومية بسبب عدم انتظام الرواتب، باسثتناء أجهزة الأمن، والتي لا
يتقاضى أعضاءها رواتبهم أيضًا مثلهم مثل باقي موظفي السلطة، فماذا تتوقعون أن يفهم
الصهاينة من ذلك؟
إن سلطة محمود عباس والتي قررت أن السلام هو
خيار استراتيجي وأن العنف مهما كان شكله وسببه مرفوض، وضعت نفسها في زاوية لا
يمكنها الخروج منه، فتصرفاتها تكذب أقوالها وتسريباتها، فتمسكها بالتنسيق الأمني
رغم كل تجاوزات الاحتلال ورغم قطع الرواتب يكذب أي تهديد يتكلم عن حل السلطة أو عن
وقف محتمل للتنسيق الأمني أو عن التوجه نحو خيار الدولة الواحدة.
الصهاينة مقتنعين تمام الاقتناع بأن السلطة
ستستمر بنفس سياستها معهم مهما حصل، لذا فهم يستغلون الأمر لعصر السلطة حتى آخر
الحدود (مثل الليمونة كلما عصرتها أكثر تعطيك ليمونًا أكثر)، ويستغلون الأمر لفرض
التهويد على الأرض سواء بالضفة أو بالقدس، وتقديرهم أنه بنهاية المطاف فستضيع
القدس وتضيع نصف مساحة الضفة مثلما ضاعت قبلهما فلسطين المحتلة عام 1948م، ويصبح
وقتها نضال الفلسطينيين محصورًا للتشبث بالكانتونات المعزولة التي يعيشون داخلها.
لدى السلطة خيارات كثيرة للخروج من هذه الزاوية
في ظل الربيع العربي، تستطيع إحراج الاحتلال ورفع عليه قضية في محكمة العدل
الدولية أو مجلس الأمن أو محكمة الجنايات الدولية، وتستطيع وقف التنسيق الأمني،
وتستطيع تحريك الجمهور الفتحاوي وافتعال مواجهات مع قوات الاحتلال، وعندها سيتدخل
العالم وستتدخل تركيا ومصر وقطر وغيرهم ليضغطوا على أمريكا والكيان (مثلما حصل في
غزة)، ووقتها تستطيع السلطة تحصيل بعض الأمور مثل أموال الضرائب المحتجزة مثلًا.
لكن السلطة لا تتبع هذه الخيارات لأن أغلب
مسؤوليها يعتبرون الربيع العربي مجرد خرافة، وفي أحسن الأحوال يعتبرون أن الربيع
العربي لا يمكن له أن يؤثر على فلسطين والكيان الصهيوني، وأغلب مسؤولي السلطة غير
مستعدين للمخاطرة بامتيازاتهم الشخصية ويخشون تهديدات الكيان الصهيوني الصريحة
والمبطنة (ومصير عرفات ماثل أمام أعينهم)، ولم يستوعبوا أن العالم تغير اليوم وعام
2012م ليس عام 2002م.
باختصار السلطة الفلسطينية تنتمي لعصر قديم،
لأنظمة الخريف العربي، وهي لا تدرك طبيعة المتغيرات ولا الإمكانيات، وما زالت تفكر
بطريقة السادات أن 99% من أوراق الحل بيد أمريكا، وما زالت ترهن نفسها للاحتلال
الصهيوني ولمنظومته الأمنية، وما لم يحصل تغيير جذري على قيادة السلطة وقيادة فتح
فستبقى غارقة في الوحل، وحكومة الاحتلال القادمة لن تكون أسهل من الحكومة الراحلة،
وستستمر بنفس سياستها السابقة وأسوأ.
حل أزمة الضفة الغربية ليس مرهونًا بحل السلطة
كما يظن الكثيرون، ومواجهة الاحتلال لن ينجم عنها عودته بشكله المباشر والفج كما
تلوح لنا سلطة محمود عباس لتخيفنا من أي خيار تصعيدي، وفلسطين ليست عزبة خاصة
بمحمود عباس أو أحمد قريع ليجربوا ما تهوى أنفسهم من حلول، فقد انتهى عهد الانفراد
بالقرارات.
وأنا لست مع خيار حل السلطة لأنها إنجاز حققه
الشعب الفلسطيني (وليس عرفات أو محمود عباس) وبدلًا من الرجوع للوراء يجب علينا أن
نتقدم إلى الأمام، وإن كانت السلطة مقيدة ومكبلة وضمن منظومة أمنية مشتركة مع
الاحتلال، فيجب التفكير بكيفية تحريرها من هذه القيود وتحريرها من هذه المنظومة
الشريرة، فالسلطة يجب أن تكون أداة من أدوات التحرر الوطني الفلسطيني لا أداة
لإدامة الاحتلال الصهيوني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق