يطرح البعض تساؤلًا عن المواجهات التي حصلت في
الخليل يوم الجمعة الماضي بين أعداد من المتظاهرين كانوا متوجهين لرشق الحجارة على
جنود الاحتلال عند باب الزاوية وبين الأجهزة الأمنية الفلسطينية الذين أرادوا
منعهم من الوصول إلى منطقة تواجد جنود الاحتلال، ويردون على من يستهجن فعل الأجهزة
الأمنية التي تقمع المقاومة الشعبية (التي دعا لها محمود عباس وسلام فياض
بنفسيهما)، ويقولون: منعهم من رشق جنود الاحتلال بالحجارة هو من أجل حمايتهم مثلما
تمنع الأجهزة الأمنية في غزة الشبان من اجتياز السلك الفاصل (ومثلما كانت تمنع إطلاق
الصواريخ سابقًا)، "فلماذا نقبل بمنع الناس في غزة ولا نرضاه بالضفة؟"
بداية يجب أن نتفق على أمر هام وضروري وهو أن
المنع ليس امتيازًا حتى نقول لماذا يسمح لهؤلاء ولا يسمح لهؤلاء، وربما يتفق
الجميع على أن مقاومة الاحتلال بكافة أشكالها (المسلحة والشعبية والسياسية
والاقتصادية) هي حق وواجب من حيث المبدأ، وإنما منطلق الذين يمنعون بعض أشكالها هو
دفع الضرر الناجم عن رد فعل الصهاينة، ولهذا يقول المدافعون عن الأجهزة الأمنية
أنهم "يريدون حمايتهم من رصاص جنود الاحتلال."
والدارس للعقيدة الأمنية والعسكرية الصهيونية يجد
أنها تقوم على مبدأ رد الفعل شديد القسوة من أجل ردع وترويض العرب (وليس فقط
الفلسطينيين) ومنعهم من التفكير بالقيام بأي عمل معادٍ للكيان الصهيوني أيًّا كان
شكله، نجد ذلك في نظرية "الجدار الحديدي" لجابتونسكي و"كي
الوعي" لموشيه يعلون، و"الردع المتراكم" ليغئال ألون، و"عقيدة
الضاحية" لجادي أيزنكات.
كما نجد ذلك في الممارسة العملية ابتداءً من
مجازر دير ياسين ومسجد دهمش والطنطورة والدوايمة خلال حرب عام 1948م، مرورًا
بمجازر خانيونس وقبية والسموع خلال فترة الخمسينات والتي كانت ترتكب ردًا على قيام
اللاجئين بالتسلل و"سرقة بقرة" أو نحو ذلك من المستوطنات الحدودية،
وانتهاءً بحربي غزة الأولى والثانية و"ردود الفعل غير المتوازنة."
فشكلت ردود الفعل العنيفة تلك ومنذ الخمسينات
رادعًا للأنظمة العربية والتي حرست حدودها جيدًا لكي لا يتسلل فدائي ويهاجم
أهدافًا صهيونية، وعندما افتتحت حركة فتح عملها العسكري المقاوم في عملية عيلبون
بتاريخ 1/1/1965م حيث انطلقت المجموعة من داخل الأراضي السورية، انبرت الصحافة
المؤيدة للنظام وقتذاك والفصائل الفلسطينية اليسارية المقربة منه بمهاجمة العملية
ووصفها بالمشبوهة وصاحبة التوقيت المشبوه وغير ذلك من الأوصاف.
كما أن أول شهيد سقط من حركة فتح أصيب برصاص
الجيش الأردني عند محاولته التسلل عبر الحدود لتنفيذ عملية ضد جيش الاحتلال، وبكل
تأكيد سواء بالحالة الأولى أو الثانية لم يكن أحد منهم متعاطفًا مع الصهاينة وإنما
كانوا يخشون من رد فعل الصهاينة العنيف وما قد يجره من خسائر كبيرة في الجانب
العربي.
وبمثل ذلك عندما جاءت السلطة الفلسطينية وفق
اتفاقية أوسلو فقد كان عرفات يرى أن لديه مشروع لحصاد نتائج الانتفاضة وإقامة دولة
فلسطينية وأن أي عملية ضد الاحتلال ستخرب المشروع وبالتالي فهي مشبوهة وقد وصفت
عمليات حماس في التسعينات بأنها تأتي لتنفيذ مصالح إيران وسوريا وليس للمصلحة
الفلسطينية، فقد حصرت السلطة الفلسطينية مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته في العملية
السياسية وأوسلو.
وترشيد العمل المقاوم من حيث المبدأ مطلوب
وضروري لأنه ليس هدفًا بحد ذاته بل هو وسيلة، ويجب تسخير هذه الوسيلة بما يحقق
الغاية التي نسعى لها وهي تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ومن المنطقي أن يمنع
مغامرون صغار من تفجير الوضع بما يخرب على المشروع الوطني الشامل.
إذن أي كانت المشكلة؟ ولماذا نعتبر ترشيد
المقاومة في غزة أمرًا طبيعيًا وفي الضفة نعتبرها مؤامرة أو خدمةً للاحتلال؟ يمكن
تلخيص الفرق بين الأمرين بكلمتين وجود "استراتيجية للمقاومة"، فعندما
تكون لديك استراتيجية مقاومة وخطة عمل للمقاومة فمن الطبيعي أن تمنع كل ما يشوش
عليها حتى تسير في مداها الطبيعي وتحقق نتائجها.
أما في حال غياب هذه الاستراتيجية وعدم وجود خطة
عمل يسير عليها الجميع، فماذا ستكون النتيجة؟ سنرى حدودًا عربية هادئة طوال عشرات
الأعوام، وسنرى أجهزة أمنية تمنع المقاومة مقابل الراتب الذي تقبضه آخر الشهر،
وسنرى تطبيعًا من ناحية الممارسة مع وجود الاحتلال (حتى لو كانت قلوبنا وألسنتنا
تلعنه).
طوال السنوات الثلاث الماضية كان الكثيرون
يشبهون حماس في غزة بحركة فتح ومسيرتها، ويصفون مطالبها المتتالية بوقف إطلاق
الصواريخ وما كان يقال عن اعتقال وتعذيب مطلقيها، وعن منعها للشباب من الوصول إلى
السلك الحدودي بالقوة لكي لا يصابوا برصاص المحتل، بأنه تكرار للتجربة الفتحاوية
في السلطة الفلسطينية.
وتبين بنهاية المطاف أنه كان للقسام ولحركة حماس
خطة بعيدة المدى حققتها، وجرت الاحتلال الصهيوني إلى الحرب وحققت أهدافها الأساسية
وأولها كان إلغاء المنطقة العازلة، فكما أوضح أحد مسؤولي الحركة الأمنيين في
مقابلة مع الجزيرة نت فإن الحركة كانت طوال الفترة الماضية تسير بخطوات من أجل
إلغاء المنطقة العازلة وكانت تشن عمليات على قوات الاحتلال داخلها وخارجها عند
المنطقة الحدودية ضمن إطار هذه الخطة.
كما تبين أن الكثير من العمليات التي لم يتبنها
أحد خلال السنوات الثلاث الماضية كانت للقسام، كما نلحظ في الفيديوهين الملحقين واللذين
بثتهما كتائب القسام لأول مرة قبل أيام (الأول مهاجمة لدبابة صهيونية بصاروخ موجه
قبيل اندلاع الحرب الأخيرة بأيام، والثاني تفجير لمدرعة صهيونية قبل عامين).
وفي كلتا الحالتين وغيرهما الكثير كانت كتائب
القسام تنفذ ولا تعلن (لأن الخطة تقتضي ذلك) فيما كانت الكتائب والتنظيمات الوهمية
(على وزن كتائب أحرار الجرجير ومجلس شوربة الملوخية) تتبنى كل عملية مجهولة
المنفذين وتتسلق على أكتاف القسام من أجل تحقيق مكاسب حزبية ضيقة ولا أستبعد وقوف جهات
استخباراتية وراء بعضها لتوجيه رسائل معينة.
بالمقابل نتساءل هل توجد خطة عمل تسير عليها
السلطة في الضفة الغربية؟ لقد حصلوا على مقعد الدولة في الأمم المتحدة، وماذا بعد؟
أين أوصلتنا "المفاوضات خيارنا الاستراتيجي" و"الحياة مفاوضات"؟
حتى الانسحابات التي حصلت عند قدوم السلطة هي نتيجة للانتفاضة الأولى (انتفاضة
الحجارة التي يتهجم عليها اليوم الكثير من مسؤولي الأجهزة الأمنية والتي لولاها
لما عادوا إلى فلسطين ولكانوا حتى اليوم مشردين في المنافي).
هل لدى السلطة خيار وتصور؟ حسب ما نرى لا يوجد
شيء، لتتفضل ولتشرحها لباقي فصائل العمل المقاوم، وليتوافقوا مع بعض مثلما رأينا
توافقًا وانسجامًا في حرب غزة الأخيرة، وبدلًا من الخطوات الانفرادية فلتنسق مع
الجميع وقد رأينا إيجابية حماس عندما دعمت ذهاب عباس لطلب العضوية من الأمم
المتحدة بالرغم من أنه ذهب بدون تنسيق معها وبالرغم من وجود تحفظات على طروحاته
وعلى مشروعه.
لنكن صريحين مع أنفسنا فما يحصل بالضفة لا علاقة
له باستراتيجية تحرر وطني، في عهد عرفات كنت سأصدق مثل هذا الكلام، لكن اليوم فنحن
نرى جيدًا المعادلة الراتب لموظفي السلطة مقابل الأمن للاحتلال، ولا يوجد أي شيء
آخر.
أي كفاح وطني من أجل التحرر وإزالة الاحتلال
هنالك ثوابت لا تتغير: الثمن المدفوع دومًا مرتفع ومن يخشى دفع الثمن فلا يفكر
بتحرير وطنه، يجب استخدام جميع وسائل المقاومة والكفاح (قاتلوا المشركين كافة كما
يقاتلونكم كافة)؛ مقاومة مسلحة وشعبية واقتصادية وسياسية وإعلامية وديبلوماسية،
ومن يحاول إسقاط أي منها من حساباته فهو يعسر المهمة إلى أقصى الحدود، وأخيرًا
هنالك صدق النية والإرادة الحديدية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق