تعتبر رواية "أليس في بلاد العجائب" للكاتب الإنجليزي لويس كارول (واسمه الحقيقي تشارلز لوتفيدج) أحد أروع قصص الأطفال الخيالية، لدرجة أنها تستهوي الكبار بنفس درجة استهواء الأطفال لما فيها من غرائب ومواقف وأحداث تجافي المنطق وتعاكسه.
وربما غاب عن ذهن الكاتب الذي عاش قبل قرن ونصف
من الزمان أنه سيأتي زمن ينافسه ويتفوق عليه في مناقضة المنطق السليم واختراع منطق
خاص به، وهذا ما نراه في العديد من المواقف في عالمنا العربي وخصوصًا في ظل توالي أحداث
الربيع العربي ومحاولة البعض الالتفاف على إرادة الشعوب العربية وإعادة إنتاج
أنظمة الاستبداد بما يلائم أهواء البعض.
ففي الرواية نقرأ قصة ملكة القلوب عصبية المزاج
متقلبة الآراء والتي تغير وتعدل القوانين بما يلائم مزاجها العكر، ففي جلسة المحكمة
التي عقدتها لتحاكم أليس وبعد أن أحرجتها الأخيرة بحججها ونقاشها تطلب إخراجها من
قاعة المحكمة لأن هنالك "قانونًا" يمنع من طوله أكثر من حد معين من
الجلوس بالمحكمة، الآن ما علاقة الطول بالجلوس بالمحكمة؟ وهل حقًا كان المشرع
يتخيل مثل هذا الموقف فقرر أن يحدد الطول الأقصى المسموح به للأشخاص؟ أم أن الملكة
اختلقته؟ لا توجد إجابة لأن أحداث القصة خيالية ولا يفترض أن تقدم إجابات منطقية.
وبالمقابل فإننا نجد نفس الموقف يتكرر بأشكال
مختلفة في عالمنا العربي، فنجد على سبيل المثال مجلس الشعب المصري المنتخب تحله محكمة
دستورية تم تعيين أعضائها ولا يخضعون لأي رقابة، ويعتبر قرارها فوق القوانين، فيما
يعتبر اللجوء للشعب من أجل الاستفتاء على دستور جديد تجاوزًا للدستور ومخالفًا
له!! من الذي يضع الدستور يا كرام؟ ألا نتكلم عن فصل السلطات؟ القضاء وظيفته
الاحتكام إلى الدستور وإلى القانون وليست وظيفته التشريع ولا سن القوانين.
يتكلمون عن ديكتاتورية لأن مرسي أصدر مرسومًا
دستوريًا يوسع من صلاحياته، فيما هم يصبغون على أهوائهم وأمزجتهم قواعد فوق
دستورية، مثلما حاولوا فرضه خلال فترة حكم المجلس العسكري؛ مجموعة من الأشخاص لا
نعرف بأي صفة يتكلمون باسم الأمة ولا نعرف كيف اختيروا ليقرروا ما يصلح لتسعين
مليونًا وما لا يصلح، أما من اختير بانتخابات نزيهة فهو لا يصلح لاتخاذ أي قرار.
ونفس الذي يسعى لنسف صلاحيات مرسي بحجة حماية
مصر من الديكتاتورية، ونفس الذي يرفض الاحتكام للشعب بحجة أنّ الدستور لا يؤخذ به
الأغلبية بل يجب الإجماع، تجده يدافع عن قرارات أمير الكويت "السيادية"،
فبسبب ثغرة قانونية إجرائية يحل مجلس الأمة المنتخب ليس لأن الانتخابات شابها
التزوير أو الغش أو التدليس، بل لأن الحكومة لم تكن قد أقسمت اليمين عندما حل
الأمير المجلس الذي سبق الانتخابات (بالله عليكم ألا ترون ملكة القلوب تتكلم
هنا؟!).
وبعد التباكي على الدستور والقانون الكويتي
والذي لا يمكن خرقه ولا بأي حال من الأحوال فهو مقدس نزل من فوق سبع سماوات، وجدنا
أمير الكويت وفي قرار سيادي آخر يقرر تعديل قانون الانتخابات بما يضمن وصول مؤيديه
للأغلبية المريحة وبما يقصي المعارضة عن المنافسة الحقيقية.
وسواء تكلمنا عن مصر أو الكويت أو الأردن أو
غيرها من الدول العربية نجد نفس النمط من التعامل، عندما نشاء فالقانون مطاط
ويتحمل التأويل الذي نريد ويمكن تغييره، وعندما نشاء أيضًا فالقانون يؤخذ بحرفيته
بل ونخترع له تفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان ونلزم بها الجميع.
عندما نتكلم عن دولة القانون وعن فصل السلطات
ودولة المؤسسات والدولة المدنية وندخل بها أهواءنا الشخصية فإننا ننسف كل المغزى
والفائدة من تطبيقها، فالقانون موجود ليتحاكم الجميع إلى نفس المسطرة وليكونوا
سواسية أمامه أما إن أردنا تبديله وتغييره وحذفه والزيادة عليه لنوائم مصلحة فلان
وعلان، فوقتها ما الحاجة للقانون؟ لنحكّم أهواءنا وقتها.
وعندما نتوافق جميعنا على "قواعد
اللعبة" ونتفق على القوانين التي نحتكم إليها مثلما كان عند تشكيل هيئة صياغة
الدستور، وعندما بدا للبعض أن قواعد اللعبة لا تسير على النحو الذي كانوا يأملون
تركوها وطالبوا بحلها، وهذا ينسف أي معنى للقوانين، فإن كان لكل متضرر من القانون
والقواعد الحق بالمطالبة بإلغائها فلن يحترمها أحد ولن يلتزم بها أحد.
وعندما نتكلم عن فصل السلطات فيجب احترام اختصاص
كل سلطة، ومثلما ندافع عن استقلال القضاء في مواجهة السلطة التنفيذية أو التشريعية
فيجب أن نحافظ على استقلال السلطة التنفيذية والتشريعية من تدخل القضاء، وأن لا
نستغل وجود قضاء موالي لنا لكي يتلاعب بالقوانين والأحكام بما يلائم مصلحتنا.
وعندما نتكلم عن دولة المؤسسات فيجب أن تكون
القرارات بعيدة عن أي تحيز أو بعد شخصي أو حزبي، فالقاضي يجب أن يكون متجردًا من
أية أهواء سياسية، ومؤسسات حقوق الإنسان يجب أن تحكم بتجرد وباتباع القواعد
المهنية الصماء التي لا تعرف التمييز بين الناس بناءً على انتماءتهم الحزبية أو الفكرية.
أما عندما أقحم السياسة في عملي كقاضي وأقرر
بناءً على ولاءات سياسية مقاطعة ما يطلب مني فعله، أو عندما أتصيد كمؤسسة حقوقية
أصغر الأخطاء وأطالب بإعادة الاستفتاء بناءً عليها (ولو كانت النتيجة معاكسة
فسأتغاضى عنها)، فهذه ليس دولة مؤسسات، هذه دولة عشائر وولاءات قبلية، لكن القبيلة
والعشيرة هنا ليست قبيلة الدم بل قبيلة الانتماء السياسي والأيديولوجي.
فليست من مبادئ دولة المؤسسات أن نرفض التعامل
مع فلان لأن مرسي هو الذي عينه، ولا أن نرفض الالتزام بقرار لأن مرسي الذي أصدره،
فالبغض والكره الشخصي لا يجوز أن يتدخل باتخاذ القرارات المتعلقة بالشأن العام،
ونستذكر هنا موقف أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عندما قابل قاتل أخيه (وقد أسلم)
فقال له عمر "أغرب عن وجهي، فإني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم!"، فرد
عليه الرجل "يا أمير المؤمنين، أوَ يمنعني هذا حقي؟" قال: "لا".
فقال: "أيحل هذا جَلد ظهري؟" قال: "لا"، فأجابه الرجل "ما
لي ولحبك، إنما يبكى على الحب النساء"، فهذه دولة المؤسسات الحقيقية.
وعندما نتكلم عن الدولة المدنية فيبدو أن
البرادعي ومن لف لفيفه لا يفهمون من الدولة المدنية إلا حق المرأة في لبس مايوه
السباحة والجلوس على الشاطئ (مع أن هذا ليس في صلب مفهوم الدولة المدنية).
الدولة المدنية تعني دولة لكل مواطينها يتمتع
فيها الكل بحقوق ومكانة متساوية، أما القول بأنه يحق له نقض إرادة الشعب لأنه من
طينة "فهمانة" أو لأنه كاهن الديموقراطية الأعظم، فهذه ليست ديموقراطية
بل هي ثيوقراطية مع فارق أن الدين والعقيدة في هذه الحالة مجهولتين، علينا أن نؤمن
بقيادة رجل دين لديانة لا نعرف عنها الكثير فلا هي من الديانات السماوية ولا هي
ماركسية إلحادية، ولا ليبرالية جون لوك وجان جاك روسو، ولا علمانية أتاتورك، لدينا
ملكة القلوب ومزاجها المتقلب مرة نجدها ليبرالية تؤمن بشدة بحقوق الإنسان وتارة
نراها ثورية ماركسية راديكالية لا تؤمن إلا بالعنف الثوري، وتارة أخرى نجدها رجعية
محافظة لا تريد السير قدمًا، متقلبة تقلب البورصة.
أما الشفافية فيبدو أن مفهوم القوم عنها هو أن
تعرض كل شيء تقوم به عليهم وحدهم، فإن أقروك عليه فأنت شفاف كالكريستال، وإلا فأنت
متآمر كوني صاحب خطة خبيثة لا يعلم خطرها إلا الله، بالمقابل فهم فوق المحاسبة
والمساءلة باسم استقلال القضاء واستقلال جمعيات المجتمع المدني فلا يسمح لأحد
محاسبتهم أو مساءلتهم.
الشفافية تعني أن أي عمل يخص الشأن العام يجب أن
يتم على الملأ وبعلم الجميع: من الذي قرر ومن الذي نفذ، ولماذا ومتى وأين وكيف، من
حق الجميع أن يعرفوا، ولا يجوز للعامل في المجال العام أن يقول هذه خصوصيات أو لا
شأن لكم، كما أن الشفافية تعني أن العامل بالمجال العام يجب أن يخضع للمساءلة ليس
فقط الحاكم والوزير والنائب، بل أيضًا القاضي والعاملين بالقضاء والوظيفة العمومية
والمؤسسات العامة المستقلة إداريًا عن الدولة، بل وحتى جمعيات المجتمع المدني يجب
أن تخضع للرقابة والمساءلة.
إن الانتقائية في تطبيق القانون ودولة المؤسسات
والدولة المدنية والشفافية، تفقدها كل المعاني المناطة بها، وتحيلنا إلى مسرح هزلي
يحاكي رواية أليس في بلاد العجائب باللامنطق واللامعقول الذي تحمله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق