يجد المتتبع لتصريحات ومواقف الاحتلال الصهيوني
أن هنالك فجوة بين الموقف الرسمي لحكومة الاحتلال، وبين الموقف "الشعبي"
للمستوطنين الصهاينة وأحزاب اليمين الصهيوني (باستثناء الليكود وإسرائيل بيتنا
عضوي الائتلاف الحاكم)، فبينما يؤكد الموقف الرسمي أن الهدف قد تحقق وهو وقف
الهجمات الصاروخية على مستوطنات جنوب الكيان، في الطرف الآخر نجد هنالك غضب وتذمر
من إنهاء الحرب قبل تحقيق الأهداف بشكل
كامل.
والأهداف الكاملة التي يرونها هو القضاء على
القدرة الصاروخية للمقاومة الفلسطينية وليس مجرد وقفها، لإدراكهم بأنه وقف مؤقت
تمامًا مثلما كان وقف الصواريخ مؤقتًا بعيد حرب عام 2009م والتهدئة التي أعلنت
وقتها، بل وأكثر من ذلك فهنالك الشروط الجديدة التي أذعنت لها حكومة الاحتلال (ولم
أجد تناولًا لها بشكل موسع في صحافة الاحتلال) وهي إلغاء المنطقة الأمنية، ورفع
أغلب إجراءات الحصار، والسماح بالصيد البحري في أماكن كانت ممنوعة منذ سنوات، ووقف
سياسة الاغتيالات، ووقف الغارات (البرية والجوية) العابرة لحدود قطاع غزة.
وإن كان القضاء على إطلاق الصواريخ يتطلب دخولًا
بريًا وتدمير البنية التحتية لفصائل المقاومة العسكرية، أو إجبار المقاومة على
الرضوخ لشروط وقيود تضمن في الحد الأدنى عدم دخول السلاح إلى قطاع غزة؛ إلا أن
شيئًا من ذلك لم يتحقق بل لم يكن مطروحًا على طاولة البحث.
ومن يفهم العقيدة الأمنية الصهيونية يدرك أن هذا
تنازل كبير جدًا، وخصوصًا أن التنازل عن المنطقة العازلة وعن عمليات الاغتيال
والتوغل الأرضي يعني السماح للمقاومة بأن تعزز من قدراتها القتالية وأن تصل هذه
التعزيزات إلى الحدود بين القطاع والكيان، وإن كانت الحرب السابقة أدت لدمار نسبي
بقدرات المقاومة وأمكن ترميمها وزيادتها وجسر الهوة مع جيش الاحتلال الصهيوني،
فالسؤال المرعب للصهاينة هو كيف سيكون الوضع بعد ثلاث سنوات في ظل أن قدرات
المقاومة لم تمس فعليًا في هذه الحرب وفي ظل الشروط الجديدة؟
نستنتج مما سبق أن حكومة الاحتلال وجدت عوامل
ضاغطة قاهرة أجبرتها على القبول بهذه التهدئة، وقد رأينا معالم القهر والإحباط في
الوجوه الكالحة لكل من نتنياهو وليبرمان وباراك في المؤتمر الصحفي الذي عقد
للإعلان عن قبول الاحتلال بشروط التهدئة الجديدة، ويمكن إجمالها بثلاثة عوامل أساسية:
أولًا: تواصل إطلاق الصواريخ من غزة وبشكل مستمر وثابت، بحيث بدت المقاومة
الفلسطينية غير متأثرة مطلقًا بالغارات الصهيونية، وكشفت عن قدرات من حيث الكم
والزخم لم تكن بحسبان جيش الاحتلال ولا أجهزته الاستخباراتية.
وفيما يبدو أن جيش الاحتلال كان قد خطط لضربات
خاطفة وقاصمة للمقاومة، ولم يخطط لحرب طويلة الأمد ومواجهة مفتوحة مع قوة عسكرية
تبين أنه كان يجهل حقيقة تسليحها وتنظيمها وقدراتها.
ثانيًا:
الخوف من انفجار الوضع في الضفة وخروجه عن السيطرة، حيث قدم جهاز الشاباك تقديرات
متشائمة حول الوضع في الضفة في ظل ارتفاع حاد في عدد المواجهات وأعمال المقاومة
الشعبية خلال الأيام الثمانية للحرب، حيث وصلت عمليات المقاومة (ما بين ضرب حجارة
وزجاجات حارقة وطعن ومقاومة مسلحة) إلى 98 عملية خلال الحرب و122 عملية طوال شهر
تشرين ثاني المنصرم، مقارنة بـ39 عملية في الشهر الذي سبقه، فيما شهدت القدس
المحتلة 44 عملية في هذا الشهر مقابل 31 عملية في الشهر الذي سبقه.
لقد خشي جهاز الشاباك أن تصل الضفة الغربية نقطة
اللاعودة في حال استمرت الحرب لوقت أطول، وفي تقديري الشخصي أنه لو استمرت الحرب
لأسبوعين إضافيين لوصلنا هذه النقطة، ولربما تطورت الأمور إلى أعمال مقاومة مسلحة
على نطاق واسع مثلما شهدنا خلال انتفاضة الأقصى.
ولعل أخطر ما واجه الشاباك والاحتلال في الضفة
هو التغير في المزاج داخل حركة فتح، وميله نحو المواجهة مع الاحتلال الصهيوني،
وشهدنا انخراطًا فاعلًا للقاعدة الشعبية لفتح في المواجهات بمختلف مناطق الضفة،
ولو استمر الوضع على ما هو عليه لامتد هذا التغير إلى أبناء الأجهزة بما يهدد
بانهيار المنظومة الأمنية بشكل كامل، خاصة في ظل انسداد الأفق السياسي.
ومن منظور صهيوني فأحد أهم الاضرار التي لا يمكن
إصلاحها، هو عودة حماس بقوة للشارع الضفاوي، وانهيار ما كانت منظومة التنسيق
الأمني قد بنته خلال السنوات الخمس الماضية، فقد كسرت حواجز كثيرة نفسية ومن جانب
السلطة كانت تمنع حماس من العمل الجماهيري الحر بالضفة الغربية، وإن كان استمرار
التنسيق الأمني يبقي نشاط حماس مكبلًا نوعًا ما فالحفاظ عليه كان ضرورة ملحة ولو
كان الثمن القبول بوقف مثل هذه الشروط.
ثالثًا: لا يمكن إنكار الدور الخارجي في وقف العدوان ضمن هذه الشروط، فلكي يحقق
الصهاينة أهدافهم وكما يريدون كان يلزم عملية برية وهذه كان يلزمها حتى تكون بأقل
خسائر ممكنة قصف جوي لمدة أسبوعين إضافيين على الأقل، وفي ظل قلة الخسائر في صفوف
المقاومة لربما احتاجت لقصف جوي أكثر من ذلك.
والمجتمع الدولي لم يكن ليقبل استمرار مثل هذه
الحرب لفترة طويلة، وخاصة أن الكيان الصهيوني بدأ يخسر الرأي العام الأوروبي
والعالمي (باستثناء الأمريكي)، ومن الناحية الأخرى لا يمكن تجاهل الدور التركي
والمصري والقطري في الضغط على أمريكا وفي دعم موقف المقاومة من أجل فرض شروطها.
لقد أراد الأمريكان في البدء أن تكون هنالك تهدئة
مثل السابقة: تعلن فصائل المقاومة وقف الصواريخ ويدرس الكيان الصهيوني بعدها متى
يوقف عملياته، لكن صلابة الموقف العربي وتحديدًا المصري والتركي بالإضافة للوضع
الميداني الصعب سواء في غزة أو الضفة دفع الأمريكان للقبول بشروط المقاومة
الفلسطينية وإجبار حكومة الاحتلال على تجرعها بحكم أنها "أفضل الموجود" و"أهون
الأضرار" بالنسبة للصهاينة.
نظرًا للتفوق العسكري الكبير لجيش الاحتلال، لم
يكن بوارد حكومة الاحتلال أن تقدم تنازلات أكبر من هذه، واعتبرت القبول ببضع سنوات
من الهدوء على الحدود الجنوبية مكسبًا مقبولًا يحفظ ماء وجهها، لكن بالمقابل هنالك
خسائر لن تظهر آثارها فورًا: ابتداءً من الهزيمة المعنوية والإعلامية للكيان،
مرورًا بخلخلة الهدوء بالضفة وعودة حماس للنشاط، وتوفير مجال أفضل للمقاومة في غزة
لكي تعزز من قوتها، وانتهاءً بالسماح لمصر وتركيا بممارسة الضغوط على الكيان
الصهيوني متى تأزم الوضع داخل فلسطين.
ربما كانت حرب الأيام الثمانية أقرب إلى جس
النبض منها للحرب الشاملة واسعة النطاق، وقد جس الصهاينة نبض المقاومة في غزة،
ونبض حكومات الربيع العربي، ووجدوا ما لا يسرهم، كما فوجئوا بحسابات خاطئة لهم في
الضفة الغربية، والأهم من كل ذلك كانت هذه الحرب رسالة للفلسطينيين والعرب أن
الأداء الجماعي ممكن في الصراع مع الكيان الصهيوني وأنه يمكن أن يحقق نتائج
ملموسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق