مع تفاقم الأزمة المالية للسلطة وعجزها عن دفع الرواتب بشكل منتظم لموظفيها، يتساءل البعض عن أسباب هذه الأزمة وهل حقًا أنها بسبب الخطوات العقابية التي أقدم عليها الكيان الصهيوني؟ أم أنّ هنالك أسبابًا أخرى؟ وما هي الحلول العملية لمعالجة هذه الأزمة؟
اقتصاد الأرض المحتلة:
حرص الاحتلال الصهيوني منذ احتلال الضفة والقطاع
عام 1967م على تدمير أي مقومات لاقتصاد حقيقي ومستقل للشعب الفلسطيني، وألحق الاقتصاد
الفلسطيني بهامش الاقتصاد الصهيوني ليعيش على الفتات الذي يتفضل به الصهاينة.
فتمت مصادرة قسم كبير من الأراضي الزراعية
الغنية وحوصرت مناطق أخرى وأعلن عن غيرها مناطق عسكرية مغلقة، كما حرصت على تجيير
الموارد الطبيعية الشحيحة لصالح المستوطنين ودولة الاحتلال (معادن البحر الميت والمحاجر
والرخام، ومؤخرًا الغاز الطبيعي والنفط في وسط الضفة الغربية)، مع إعطاء بعض
المطبعين الفلسطينيين امتيازات في مجال المحاجر والرخام.
كما حرصت على تكبيل الصناعات الفلسطينية وخاصة الثقيلة
منها، وقامت بتوجيه المجتمع الفلسطيني للعمالة في المستوطنات وداخل الكيان
الصهيوني وبلغ عدد العمال الفلسطينيين داخل الكيان الصهيوني عام 1987م حوالي 105
آلاف عامل (مع الزيادة الطبيعية كان من المفترض أن يصل عددهم اليوم حوالي 250
ألفًا).
وحتى أواخر التسعينات كان دخل المواطنين في
الضفة والقطاع يعتمد على العمال داخل الكيان الصهيوني والمستوطنات، وتحويلات
المغتربين (والتي تزدهر بفضلها مناطق مثل رام الله)، وقطاعين زراعي وصناعي
متواضعين.
اقتصاد السلطة
الفلسطينية:
بعد قدوم السلطة الفلسطينية وبعد انتفاضتين حصل
تحول جوهري في سوق العمل الفلسطيني، إذ انخفض عدد العمال الفلسطينيين داخل
المستوطنات والكيان ويقدر عددهم اليوم بأقل من 40 ألفًا (بمن فيهم "غير
الشرعيين")، واستبدلوا باليد العاملة الأجنبية القادمة من تايلند ورومانيا وغيرها
من الدول، ويقدر عدد العمال الأجانب داخل الكيان (مع عائلاتهم) بحوالي 400 ألف.
وفي المقابل تضخم عدد الموظفين في القطاع
الحكومي بشكل كبير، حيث يزيد اليوم عدد موظفي السلطة عن 160 ألفًا في الضفة
والقطاع، وغالبيتهم هم موظفين غير منتجين (بطالة مقنعة)، فمن أين تغطي السلطة
رواتبهم؟
المصدر الأساسي لرواتب السلطة هي الضرائب بمختلف
أشكالها، إلا أنه ووفق اتفاقية أوسلو وملحقها الاقتصادي (اتفاقية باريس) فهنالك
اتحاد جمركي بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال، ويترتب على ذلك أن جميع
البضاعة التي تدخل المناطق الفلسطيني في الضفة والقطاع يجب أن تخضع لإشراف
الاحتلال من الناحيتين الأمنية والمالية.
وهذا يعني أن الاحتلال يستطيع منع وعرقلة دخول
أي مواد ذات طبيعة إنتاجية (ماكنات صناعية مثلًا) بحجة الأمن، كما يعني أنه مسؤول
عن جباية الضرائب على جميع الواردات (ضريبة القيمة المضافة والجمارك وضريبة
المحروقات) وهذه تشكل ثلثي دخل السلطة السنوي (1.5 مليار دولار سنويًا)، ويسلمها
للسلطة في نهاية كل شهر بعد أن يأخذ عمولة جباية مقدارها 3%.
وللسلطة مصادر دخل أخرى تتنوع بين الضرائب
المباشرة مثل ضريبة الدخل والمساعدات الخارجية المباشرة وغير المباشرة، وبكل
الأحوال فقسم كبير من ميزانيتها يتحكم بها الاحتلال الصهيوني والذي يقوم أيضًا بمنع
إقامة مشاريع تطويرية مثل عدم موافقته حتى اليوم على إقامة مناطق صناعية خططت لها
السلطة في أريحا وجنين وغيرها من المناطق.
وربما ما لا يدركه الكثير من الناس أنّ جزءًا
هامًا من حصار قطاع غزة سببه هذه الاتفاقيات والترتيبات، وتحديدًا فتح معبر رفح أمام
البضائع التجارية، لأن الاحتلال الصهيوني يعتبر ذلك خرقًا للاتحاد الجمركي مع
السلطة، ويهدد بإلغاء كل الترتيبات الاقتصادية مع السلطة مما يجعل الضفة الغربية
والسلطة رهينة بيده.
ولهذا السبب تعارض سلطة رام الله وبشدة فتح معبر
رفح أمام الحركة التجارية (وإن كان كبرها يمنعها من الاعتراف بشكل علني وواضح بهذه
الحقيقة)، ولهذا السبب لم يقدم محمد مرسي أي حلولًا عملية حقيقية على هذا المستوى،
ولهذا السبب قبلت حماس (بهدوء وبدون ضجة) إماتة مشروع المنطقة الحرة التجارية عند
معبر رفح.
أين المشكلة؟
من الخطأ الظن بأن مشكلة السلطة طارئة أو أنها
مرتبطة حصرًا بالعقوبات المفروضة بعد إعلان الدولة، ويمكن تتبع آثار الأزمة
المالية إلى عام 2005م وقبلها، ففي ذلك العام أصدر الاتحاد الأوروبي تحذيرًا
للسلطة أنها ما لم تقدم على إصلاحات إدارية ومالية (تتلخص أساسًا بتخفيض عدد موظفي
السلطة والبطالة المقنعة)، فإنها ستوقف الدعم المالي المقدم للسلطة.
وبدلًا من الاستجابة لهذا الطلب وتصحيح أوضاعها
المالية قامت حكومة أحمد قريع بتوظيف الآلاف كرشوة انتخابية أملًا باستقطاب
الأصوات لصالح فتح في الانتخابات القريبة، وعرفت هذه الدفعة بتفريغات عام 2005م
وهي لحد اليوم مشكلة مزمنة ومؤرقة تواجه السلطة.
إلا أنه بعد فوز حماس بالانتخابات وفرض العقوبات
على حكومتها وقدوم حكومة سلام فياض، لم تعد الإصلاحات الاقتصادية مطلبًا، لأن
الأجندة السياسية تم تقديمها وإعطاؤها الأولوية القصوى.
لقد تضخم الجهاز الإداري التابع للسلطة وأرهق بالالتزامات
الإضافية، لقد تم إحالة آلاف الموظفين العسكريين على التقاعد بشروط مغرية (راتب
تقاعدي يساوي نفس راتبه الأصلي)، وتم توظيف الآلاف من العسكريين الجدد بدلًا منهم،
وتم توظيف المئات من المستشارين وكبار الموظفين برواتب خيالية بالنسبة للقطاع
العام فنجد راتب محمد مصطفى رئيس هيئة الاستثمار يصل إلى مئة ألف دولار شهريًا،
فيما يصل بعض رواتب مستشاري فياض إلى 15 ألف دولار شهريًا.
إضافة إلى مشكلة عدم انتظام الرواتب، هنالك: حوالي
1.5 مليار ديون على السلطة لصالح البنوك المحلية بحسب صندوق النقد الدولي، وأكثر
من 80 مليون دولار ديون على السلطة لصالح شركات الأدوية الفلسطينية، وسبعة مليون
دولار لصالح مستشفى المقاصد الإسلامي في القدس، وحوالي 70 مليون دولار لصالح شركة
كهرباء القدس على شكل فواتير لم تسددها الحكومة وكهرباء مجانية لمخيمات الضفة (في
محافظات القدس وبيت لحم ورام الله) لا تمولها أي جهة، ومئات الملايين لصالح موردين
آخرين يتعاملون مع السلطة وغيرها من مستحقات مياه وكهرباء لصالح شركات الاحتلال،
وإيجارات غير مدفوعة لمقرات السلطة.
لاحظوا كيف أن الأزمة تتعدى الموظفين إلى قطاعات
كاملة في المجتمع الفلسطيني، وفي ظل أن الاحتلال لم يقطع فعليًا لحد الآن الدفعات،
وأن كل ما يهدد به هو تحويل أموال الضرائب لدفع المستحقات من كهرباء ومياه لصالح
شركات الاحتلال، فنتساءل أين ذهبت وتذهب كل أموال الضرائب والمساعدات؟
الحل الحقيقي الوحيد:
تحاول السلطة الهروب إلى الأمام عندما تفرض
المزيد من الضرائب، فحاولت فرض ضريبة على القطاع الزراعي والذي يعاني أصلًا بدون
وجود ضرائب، وضرائب إضافية على قطاع البناء والإنشاءات، وضرائب على مكافأة نهاية
الخدمة للعاملين في الجامعات والبنوك والقطاع الخاص والتي تعاني أصلًا من هجرة
العقول للعمل بالخارج وأية ضرائب إضافية هي بمثابة دافع جديد للهجرة.
فما دام لا يوجد اقتصاد مزدهر فأي ضرائب إضافية هي
خنق للاقتصاد الموجود، وما دام الازدهار الاقتصادي مرتبط بوجود مناخ استثماري لا
يمكن خلقه بالضفة والقطاع ما دام الاحتلال موجودًا، فقررت السلطة مرة أخرى الهروب إلى
الأمام وهذه المرة لاستجداء الأموال من الدول العربية.
والحقيقة أن السلطة تتلقى ومنذ عام 2006م
أموالًا بشكل شبه منتظم من الدول العربية من أجل دفع الرواتب للعاملين في أجهزتها،
مع ذلك فهي دائمة الاتهام للدول العربية أنها لا تدفع شيئًا، ومؤخرًا طالبت بمظلة
عربية مالية لمساندة السلطة بعد العقوبات التي فرضت عليها إثر إعلان الدولة.
والمظلة المالية هي مطلب شرعي عندما تكون موجهة
لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته في وجه الاحتلال الصهيوني، أما عندما تكون
موجهة للتغطية على فشل السلطة السياسي والاقتصادي والإداري، وعندما تكون مخصصة
لدفع رواتب الأجهزة الأمنية (65 ألف عنصر تقريبًا) والموكل إليها حماية أمن
الاحتلال، وعندما تكون موجهة للترقيع على جرائم الاحتلال وبدون وجود أي خطة أو
استراتيجية لإنهاء الاحتلال، فيصبح وقتها المال العربي يصب في خدمة الاحتلال
الصهيوني.
تتجه كافة خيوط الأزمة المالية في السلطة
الفلسطينية إلى الاحتلال، وما دام لا يوجد عمل على إنهائه ولا توجد خطة أو تصور
لمحاربته، وما دامت وظيفة السلطة الأساسية هي حماية الكيان (لاحظوا إضرابات موظفي
السلطة شملت كافة القطاعات باستثناء الأمن!)، فمن المفترض أن يقال للسلطة اذهبي واطلبي
رواتبك وأموالك من الاحتلال الصهيوني وضعيه أمام الأمر الواقع "إما أن تنهار
السلطة وتواجه انتفاضة ثالثة، وإما أن تدفع الرواتب وتشتري هدوءًا للفترة
القادمة"، أو أن تضعي خطة للتحرر الوطني من الاحتلال وتسيري قدمًا بتطبيقها، ما
عدا ذلك فليست مشكلة العرب ولا الشعب الفلسطيني، وولى عهد الثقة العمياء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق