الخميس، 16 فبراير 2012

الطائفية والعلمانية





لفت انتباهي الدكتور عزمي بشارة خلال لقاء معه ضمن برنامج "حديث الثورة" على فضائية الجزيرة بتاريخ (28/1/2012م) قوله بأن "الطائفية هي ظاهرة علمانية لا علاقة لها بالدين"، وبقدر ما تبدو العبارة للوهلة الأولى متناقضة إلا أنه وبقليل من التفكير نكتشف مفهوماً جديداً للطائفية ولعلاقة وثيقة تربطها بالعلمنة.


ولما جاءت إشارة الدكتور بشارة لهذا المفهوم بشكل عابر، سنحاول هنا التعمق وتوضيح وشرح أبعاد هذه النظرة والفكرة، لعلنا نقدم إجابات وحلول لمشكلة الطائفية التي باتت تهدد أكثر من دولة عربية وإسلامية بالتمزق والغرق في صراعات دموية وعبثية لا يستفيد منها إلا أعداء الأمة.


لماذا الطائفية هي ظاهرة علمانية؟ عندما ينتسب المرء لطائفة دينية أو مذهبية ألا يعتبر ذلك تديناً؟ الطائفية هي ظاهرة علمانية لأنها لا تهتم بسلوكيات ولا حتى معتقدات الشخص، فيكفي انتسابه لمجموعة من الناس يسمون مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو دروز أو شيعة أو سنة، فلا يشترط لتنتسب إلى طائفة أن تكون مقيماً لشرائعها.

المهم في الطائفة هو التعصب لأفراد الطائفة وليس لعقيدة الطائفة ولا لفكرها ولا لقيمها، بل إن اقتضى الأمر يتم الدوس على القيم المقدسة للطائفة في سبيل تحقيق مبدأ التعصب لأفراد الطائفة.

فلو سرق ابن طائفتي من طائفة أخرى، فلا يجوز أن ألومه ولا يقبل أن أحاسبه أو أن أشهد ضده، لأني أكون ساعدت العدو (الطائفة الأخرى) وبالتالي غدرت وخنت طائفتي، ولا يعني شيئًا أن السرقة في معتقدي وعقيدتي محرمة وغير مقبولة.


في المنظومة الطائفية نحكم على الشخص حسب انتمائه الطائفي، فإن كان من طائفتنا فهو أفضل من غيره، حتى لو كان كاذبًا وسارقًا وغشاشًا، والتبريرات جاهزة مثل "المهم هي العقيدة، وما دامت عقيدته أفضل من غيره فمعناه أن كل ما دون ذلك لا يهم."


وبالتالي لا يجوز حتى مدح أبناء الطوائف والديانات الأخرى ولا إطلاق أوصاف إيجابية بحقهم، ولا يجوز أن نتوقع أنه في يوم من الأيام ممكن أن يخرج من "العدو" خير أو عمل صالح، في تناقض مع قوله صلى الله عليه وسلم:" تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ" – رواه البخاري، ولا يقبل الاستشهاد مثلاً بقوله تعالى: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا" آل عمران الآية 9، يسمح لك بالاستشهاد بالشق الثاني، أما الشق الأول فيتناقض مع الطائفية.


وإن كان أغلب الطائفيين يأخذون العقيدة كذريعة للتعصب لطائفتهم، فهنالك شواهد عديدة تثبت أنه حتى المعتقد غير مهم، فالشيء الوحيد المهم هو الانتساب لمجموعة بشرية والتعصب لها، فقد يكون الشخص ملحداً لكن محسوب على الطائفة التي ولد في كنفها، فالطائفية هي ما تجعل شخص ملحد وغير مؤمن بالله مثل ديفيد بن غوريون المؤسس الفعلي لـ "دولة إسرائيل" والملهم الأول للحركة الصهيونية.


فالصهيونية هي أوضح مثال على العلاقة الوثيقة بين الطائفية والعلمانية، فالصهيونية تعصب لليهود ورابطة تجمعهم بغض النظر عن التزامهم بالشريعة اليهودية، والصهيونية حركة علمانية، ولذا توجد أحزاب دينية داخل الكيان الصهيوني ترفض الصهيونية بسبب علمانيتها (وليس بسبب طائفيتها).


وهذا التناقض أدى لخلافات في عدد من القضايا مثل قانون "من هو اليهودي"، إذ أن الصهاينة العلمانيين معنيين بزيادة عدد اليهود حتى لو لم يكونوا يهودًا بمعايير الشريعة اليهودية، بينما المتدينون لا يريدون استقبال من ليس يهوديًا حسب تعريف التوراة والتلمود.


والمجموعات الدينية المغلقة مثل اليهودية والسامرية والدرزية، والتي لا تقبل انضمام مؤمنين جدد، توضح لنا الفكرة بشكل أوضح، فهي تعتبر أبناءها ينتمون لها حتى إن خرجوا من الطائفة واعتنقوا معتقداً آخر فهم يبقون خراف ضالة ستعود للقطيع حتماً في نهاية المطاف، وهم يبقون أفضل في كل الأحوال من أي شخص آخر حتى لو كان راغبًا بالانضمام للطائفة ويؤمن بمعتقداتها.


وحتى الديانات المفتوحة والدعوية (أو التبشيرية) مثل الإسلام والمسيحية، عندما تنجر لمربع الطائفية لا يعود مهمًا دعوة من هم خارج الطائفة لكي يؤمنوا بما نعتقد ونؤمن به، لأنهم أعداؤنا للأبد ولا يمكن هدايهتم لأن قلوبهم طبعت على الضلال، وبدلًا من أن تكون مهمتنا دعوة الآخرين تصبح مهمتنا محاربتهم ومحاصرتهم وأن نأخذ حصصًا في الدولة أكثر منهم.


ولو عدنا للقرون الوسطى عندما انتشر التعصب للمذاهب الفقهية، وكنا نرى الحنبلي لا يصلي خلف الشافعي أو لا يزوج منه مع أن العريس والعروس وأهليهما لا يدرون الفرق بين المذهبين، لكن في التفكير الطائفي فهذا لا يهم، ما هو مهم هو التعصب للمجموعة فقط لا غير.


هكذا نرى أن الطائفية تتشابه مع العلمانية وتتقاطع معها في أنها لا تقيم وزنًا للالتزام بتعاليم الدين ولا حتى الإيمان به فهذه أمور تخص الفرد فقط، ولا تخص الطائفة، ولو تعارضت مصلحة الطائفية مع مبادئ الدين فتقدم مصلحة الطائفة، وهي نفس الطريقة التي تتعامل بها العلمانية مع الدين.


فعندما نتكلم عن الطائفية فنحن نتكلم عن جوهر علماني لا يقيم للمعتقد أو للممارسة وزنًا ويتخذ من الدين مجرد قشرة وشعارات تجمع الناس وتدفعهم للتكتل مع بعضهم البعض والصراع مع غيرهم.


والصراع غالبًا ما يكون على مكاسب ومنافع دنيوية لا علاقة لها بالدين، بل قد نجد حالات تتناقض فيها المصلحة بشكل صارخ مع الدين، مثلما كان الصراع الطائفي بين الأقباط والمسلمين بمصر حيث تكفي علاقة حب بين قبطية متزوجة ومسلم وهروبها معه لإشعال معارك طائفية وتحريض غير منتاهي، وقد رأينا كيف أخمد الصراع مرة واحدة عندما شعر قادة التيار السلفي بخطورة المنحدر الذي كانت تنزلق إليه مصر، فلا يعقل أن تحترق مصر من أجل مغامرات عاطفية لفلان وفلانة.


وإن كان البعض يطرح علمانية الدولة مخرجًا لتجنيبنا الصراعات الطائفية، إلا أن الواقع أثبت أن الحال ليس كذلك، وليس أدل على ذلك من الحرب الأهلية اللبنانية إذ أن من أشعلها عام 1975م هي قوى علمانية ويسارية، والجماعات الدينية دخلت على خط المواجهة في وقت لاحق.


الحل يكمن في أن نعيد للدين موقعه الصحيح في المجتمع، فالمقدس ليست الجماعة وليس الأفراد المكونين للجماعة، بل العقيدة والمبدأ والمثل والأخلاق التي نعتنقها، فالدين هو معتقد وإيمان أولًا، وممارسة تنعكس في سلوكنا اليومي وتحتكم لضوابط أخلاقية ثانيًا.


تعصبي يجب أن يكون للإسلام وليس للمسلمين، تعصبي للحق ولو كان على نفسي أو أبناء طائفتي أو المجتمع الضيق الذي أنتمي إليه، عندما يصبح فهمنا للدين أنه عقيدة أؤمن بها وأخلاق أتحلى بها وممارسات تهدف لخير البشر كل البشر، وليس قبيلة أنتسب لها وأتعصب لها بالحق وبالباطل، عندها فقط يمكن القول بأنه يمكن دفن الطائفية والتخلص منها.

هناك تعليقان (2):

أقمار الدياجي يقول...

بوركت اخانا الاستاذ ياسين
لم يسبق لي ان قمت بالربط بين الطائفية والعلمانية لذا راقني المقال كثيرا،.
سلم فهمكم النير

ياسين عز الدين يقول...

شكراً لك أختي الفاضلة أقمار الدياجى.

بوركت