مشكلة
راغب السرجاني وأكثر من "يفتي" بالسياسة الشرعية هي الاتكاء على فقه كتب
لواقع غير واقعنا، وقسم كبير منه كتب إما تبريرًا لأخطاء الحكام أو محاولة
لترشيدها والتقليل منها.
ولو
رجعنا إلى القرآن وصحيح السنة النبوية لوجدناه يتكلم بعموميات مثل العدل وتحريم
الظلم والشورى وعدم أكل أموال الناس بالباطل والسمع والطاعة في غير معصية.
وإن كان
فقهاء العصور الوسطى اجتهدوا وحاولوا تنزيل هذه الأحكام على واقعهم، فإن مشكلتنا
كانت تقديس أقوال هؤلاء الفقهاء وِأشكال ممارسة الحكم في ذلك الزمن، حتى لو تعارضت
مع صريح القرآن والسنة.
ومن
أمثلة ذلك فقه التغلب وإعطاء من يقفز على الحكم بقوة السلاح شرعية دينية ضمن شروط
معينة، وهو بالأصل محاولة اجتهادية لترقيع خلل بين في نظم الحكم الإسلامية يتناقض
مع شورية الإسلام ووجوبها.
وليأتي
تنزيل هذا الفقه على واقعنا بمصائب وطوام لا يعلم بها إلا الله، ابتداءً من
التبرير لأنظمة أقل ما يقال عنها أنها مجرمة وانتهاءً بالكوميديا السوداء المسماة
خلافة داعش التي تتكئ على هذه الفتاوى.
وراغب
السرجاني لمن كان يتابعه كان لديه خلل في تنزيله التاريخ على الواقع عندما كان
يتكلم عن حزب الله (على سبيل المثال)، وكأن ما يقوم به حزب الله هو استنساخ أو
امتداد مباشر لما حصل قبل مئات الأعوام، ولأنه لاقى هوى كثيرين لم يعترضوا عليه،
لكنه من الناحية المنهجية كان ذلك خطأ.
ولست
بصدد الرد على مقاله بالكامل، لكن سأرد على جزئية معينة وهي تفريقه بين معاملة
المسلم والكافر، فقوله أن الجهاد
يكون ضد الكافر وليس ضد المسلم صحيح لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن أن نتهاون في
الخطأ لأن من قام به مسلم وليس بكافر.
وإلا
أصبحنا "شعب الله المختار" مثل اليهود الذين قالوا "ليس علينا في
الأميين سبيل"، فأباحوا سرقة غير اليهودي وأخذ الربا منه.
والانتماء للإسلام هو إيمان وعمل وليس
انتماء لقبيلة، فحكم القتل هو التحريم سواء كان القاتل مسلم أم كافر، وحكم السرقة
التحريم سواء كان السارق مسلم أو كافر، وهكذا.
والانتماء
للإسلام لا يعطي حصانة من الحساب، وإلا فأين نذهب من "لو سرقت فاطمة بنت محمد
لقطعت يدها"؟ والخيرية التي نضفيها على المسلم ليس لانتمائه الشكلي بل
لانتمائه الفعلي "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر"، فما بالكم بمن يرتكب المنكر ذاته؟
إعطاء
المسلم الحصانة من الحساب فقط لأنه مسلم هي طامة، وما مصائب داعش إلا نتيجة لهذا
الفقه المشوه القادم من بني إسرائيل، فأخوة المنهج حتمت على مؤيدي القاعدة وداعش
أن يسكتوا عن أخطاء داعش لأنهم "إخوة منهج"، حتى كبرت الأخطاء وأصبحت
مصائب وكوارث.
وبنفس
المقياس فلا يجوز المطالبة بالسكوت عن أخطاء الحاكم بحجة أنه مسلم، وإلا فإننا نحلل
بشكل غير مباشر ما حرمه الله، واستحضار فقه الماضي لتسويغ أخطاء الحاضر هي جريمة
مركبة، فلا اجتهادات أهل العلم مقدسة ولا السكوت عن الظلم من الإسلام.
واختم
بمثال يوضح مقدار الخلل الذي نقع فيه عند استنساخ اجتهادات من قبلنا كأنها أحكام
قطعية منزهة عن الخطأ، فالقول المنسوب للرسول عليه الصلاة والسلام عن طاعة الأمير
"تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع" فإن كان جزءًا من حديث
صحيح، إلا أنه زيادة على الحديث وفيه أقوال وهنالك من قال أنها زيادة موضوعة.
وعلى فرض
صحة هذه الزيادة فهي دعوة للوحدة وعدم الشقاق وليس السكوت على الظلم، ولو أخذناه
بحرفيته فمعناه إباحة السرقة وإباحة الظلم، وعندما نسكت عن الظالم فنحن نسقط شعيرة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن "من مات دون ماله فهو شهيد"
كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأن نسقط
كل الآيات والأحاديث لنثبت فهمًا معينًا وحرفيًا لحديث نبوي فهذا فيه خلل، وما جاء
في هذا الحديث أفهمه على سبيل المجاز لا بحرفيته، وذلك حتى أوفق بينه وبين باقي
الأحاديث والآيات.
وهنا
استحضر موقف موسى عليه الصلاة والسلام مع أخيه هارون عندما عبد بنو إسرائيل العجل،
فهارون آثر الوحدة والحفاظ على صف بني إسرائيل، وموسى آثر النهي عن المنكر،
والقرآن لم ينكر تصرف موسى ولا تصرف هارون، فلكل منهما اجتهاده.
وهكذا
التعامل مع ثنائية محاربة الظلم أو الفرقة، فهذا أمر لا يوجد فيه حكم واحد يصلح
لكل مكان وزمان، فالأمر يتعلق بالظلم ودرجته والقدرة على تغييره، وعلى الفرقة التي
قد تحصل وخطورتها.
خلاصة
الأمر أننا بحاجة لمراجعة كل الفقه السياسي بل ونسفه وعدم الاعتداد إلا بصريح
الكتاب والسنة، وأما اجتهادات أهل العلم السابقين فلا تلزم إلا أصحابها، وإلا
فإننا سنبقى ندور بين الجامية والداعشية ومناهج الترقيع لما لا طائل من ترقيعه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق