عندما استجابت السلطة لضغوط أمريكا والكيان الصهيوني
وسحبت تقرير جولدستون قبل أربعة أعوام تقريبًا ثارت ضجة كبيرة أجبرتها على إعادة
طرحه أمام مجلس حقوق الإنسان ثم أمام الأمم المتحدة، وعندما قدم الوفد العربي
مؤخرًا تنازلًا جديدًا (تبادل الأراضي) ثارت ضجة كبيرة أخرى اضطرت السلطة لمواراة
موقفها القديم القابل لفكرة التبادل.
إلا أن ما لفت نظري هو مرور حادثة سحب قرار إدانة
الاحتلال من اليونسكو قبل أقل من أسبوعين بدون أن تنال الاهتمام الإعلامي الذي أثبت
بالسابق أنه كان يجبر السلطة على التراجع عن قراراتها المخزية.
لقد كان ثمن الانضمام إلى اليونسكو سلسلة عقوبات صهيونية
وأمريكية على السلطة، كان من بينها حجز أموال السلطة (الرواتب) لفترة زمنية، وتلا
ذلك تحدي القبول كعضو مراقب في الأمم المتحدة، الأمر الذي فتح الباب أمام الانضمام
إلى مؤسسات دولية أخرى.
وبدلًا من أن تستغل السلطة الفرصة السانحة من أجل التوجه
لهذه الهيئات الدولية لإدانة الكيان الصهيوني ومحاصرته، نراها حريصة على أن تكون
العضوية بلا معنى ولا غاية، وأن لا تكون أكثر من مادة للتفاخر الإعلامي أمام
الجمهور الفتحاوي أنها أنجزت وأنها حققت وأنها انتصرت.
فالعضوية في منظمة اليونسكو يفترض أنها تهدف للحفاظ على
الهوية الفلسطينية لهذه الأرض ومنع تهويدها ومنع تهويد المقدسات الإسلامية وعلى
رأسها المسجد الأقصى المستهدف بشكل دائم، وعندما تقدمت السلطة والأردن بقرار إدانة
الاحتلال بسبب إجراءات تهويد المسجد الأقصى والقدس وتغيير المعالم العربية
الإسلامية إلى معالم يهودية مفتعلة، بما يتنافى مع أبسط معايير المهنية الأثرية
ومبادئ الحفاظ على الثقافة العالمية، فقد كانت خطوة على الطريق الصحيح.
لكن سرعان ما سحب القرار وبضغط من أمريكا والكيان
الصهيوني (مع أنهما ليسا أعضاء في اليونسكو!)، وذلك مقابل صفقة هزيلة مع الاحتلال
الذي سيسمح بقدوم وفد خبراء دولي من الأمم المتحدة للقيام بجولة تفقدية في القدس
منتصف الشهر الحالي (وسنتابع جولته لأننا لسنا مغفلين ولن ننسى أمرها كما يأمل
البعض).
هذه الصفقة وإن كانت تبدو للوهلة الأولى أنها إنجاز ليست
أكثر من نكوص وانتكاسة وتخليًا عن إنجاز الانضمام إلى اليونسكو، لأن مشكلة القدس
ليست مشكلة فنية أو مشكلة ثقافية تحتاج لخبراء ليفصلوا بين الخصوم فيها، والطامة
بالصفقة أنها تقر ضمنًا بوجود حق يهودي في القدس المحتلة ووفد الخبراء سيأتي ليرى
هل اجتاز الصهاينة الخط الفاصل بين ما هو "حق لهم" وما هو حق
للفلسطينيين والعرب والمسلمين أم لا؟
فالأردن والسلطة أقرتا بأن للكيان الصهيوني الحق في
القدس لكن الخلاف هو على حجم هذا الحق، كما قبلتا بتقزيم مشكلة القدس لأن تكون
مشكلة فنية تحتاج للجنة خبراء من أجل البت بها.
وقد يقول قائل أن قرار الإدانة مجرد كلام وذا أثر معنوي
والمطلوب هو خطوة عملية مثل لجنة الخبراء، لكن غاب عنهم أن هذه اللجنة (التي لم
يتضح لنا من سيكون أعضاؤها) ليست مضمونة النتائج وقد تتلاعب بها أهواء السياسة
وتسعى إلى "قسم الطفل" بالنصف بين الفلسطينيين والصهاينة حتى تتظاهر
بأنها عادلة ومحايدة.
وحتى لو كانت محايدة فعلًا وأدانت الاحتلال الصهيوني،
فالصهاينة وبكل بساطة لن يأخذوا بكلامها وسيضربوا بها وجه الحائط بدون أي رادع أو
مانع، فنكون وقتها قد ضيعنا قرار الإدانة والانتصار المعنوي ولم نحصل على القرار
العملي لأن الصهاينة لن يلتزموا به.
وسيصبح حال القضية الفلسطينية (مثلما تريد الإدارة
الأمريكية) أنها معلقة لحد انتهاء المفاوضات والمباحثات ولا يتدخل بها أحد حتى لا
يخرب المفاوضات، ولا أحد يتدخل ليدين إجراءات الاحتلال في القدس لأن هنالك لجنة
تبحث الأمر وستصدر قرارات وسيبحث أمر تطبيقها، وكل شيء يجب أن يتم بالتراضي
والصهاينة لن يرضوا بشيء، فيحصل الصهاينة على ما يريدون بدون أن يواجهوا حتى
بإدانة.
أتصور أن الناس لم يدفعوا ثمن العضوية في اليونسكو من
أجل أن يعين فلان أو علان ممثلًا لفلسطين
فيها، بل من أجل خدمة القضية الفلسطينية، والشعب دعم خطوة الذهاب إلى الأمم
المتحدة كوسيلة نضالية من أجل تحصيل حقوق الشعب الفلسطيني، وليس كوسيلة مساومة
تستخدمها السلطة من أجل اثبات حسن النوايا للصهاينة.
آن الأوان لمحاسبة عصابة الفاشلين القابعين في مقاطعة
رام الله، فتكرار نفس الأسلوب الفاشل مع الصهاينة طوال عشرين عامًا واتباع كل فشل
بتنازل جديد ثم يتبعه تنازل آخر ثم آخر، ونحن نغني ونرقص "الحياة مفاوضات"،
وليأتِ رياض المالكي ليطمئن الصهاينة خلال الاجتماع مع كيري بأن طلبات عضوية
فلسطين في باقي الهيئات الدولية (بما فيه محكمة الجنايات الدولية) سيتم تجميدها
كبادرة حسن نية تجاه الكيان الصهيوني.
السلطة عاجزة عن الاستفادة من العضوية بالأمم المتحدة |
من يضع غضب الاحتلال الصهيوني خطًا أحمر أمامه لا يجرؤ
على تجاوزه فلن يحقق شيئَا، بل لن يتورع عن خدمة المحتل كي لا يناله بعضًا من
نيران الاحتلال، ويجعله يجهض أي إنجاز وطني حتى لو كان سلميًا مثل خطوة الانضمام
إلى اليونسكو، وتجعلك ترى الضحية تعتذر إلى جلادها وتطمئنه أنه ستسامحه وتغفر له
ما تقدم وما تأخر من ذنبه، وتجعلنا نشكك بكل ما تعقده السلطة من اتفاقيات.
فهل من المصادفة أن تأتي خطوة سحب إدانة الاحتلال لقرار
الإدانة أيامًا بعد التوقيع على ما سميت باتفاقية حماية القدس بين السلطة والنظام
الأردني، والتي تكلمت عن كل شيء تقريبًا إلا عن كيفية حماية القدس من الاحتلال
الصهيوني؟
إن أي عضوية في اليونسكو أو الأمم المتحدة لا تساعد
بإعادة الحق الفلسطيني هي عضوية ناقصة لا قيمة حقيقية لها، وأي مؤسسة فلسطينية لا
تعمل على إعادة الحق الفلسطيني السليب هي مؤسسة لا قيمة لها، وأي شرعية لا تشير
بوصلتها إلى تحرير فلسطين هي شرعية باطلة.
فلتذهب إلى الجحيم كل شرعية وكل مؤسسة لا تعمل على تحرير
فلسطين، وسحقًا لكل تجار القضية الفلسطينية الذين لا يرون فيها أكثر من بقرة حلوب
تدر عليهم امتيازات شخصية وبطاقات في أي بي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق