قبل حوالي العام عندما ظهرت النتائج الأولية
لانتخابات المؤتمر الوطني العام الليبي خرجت فضائية العربية بعنوان عريض "فشل
المشروع الإسلامي"، واحتفل "محللوها" بما اعتقدوا أنه بداية
النهاية للتيار الإسلامي وأنها بداية تخلي الشعوب العربية عن الإسلام والتيار
الإسلامي.
ووقتها كنت أنوي الكتابة والرد على مغالطاتهم
إلا أنه لم أجد الوقت الكافي، وجيد أني لم أكتب وقتها حيث أن الكثير من الأحداث
والتطورات تلاحقت خلال هذا العام أثبتت أن أحلام الشامتين كانت متسرعة جدًا وأن
المشروع الإسلامي تقدم بشكل حثيث بدل أن يتراجع، مما وفر لي أدلة ملموسة على ما
سأكتبه وليس مجرد تحليل عابر.
ولا بد من الإشارة في البدء إلى أن
الانتخابات الليبية وقتها لم تفرز مجلسًا علماني الطابع وليبرالي التوجه، فمن بين
80 مقعدًا مخصص للأحزاب حصل التحالف من أجل الوطن الموصوف بالليبرالية على 39
مقعدًا، وهو عبارة عن تحالف لحوالي أربعين حزبًا، تلاه حزب العدالة والبناء
(الإخوان المسلمين) بـ17 مقعدًا، فيما حصل حزب الجبهة الوطنية على 3 مقاعد وتوزعت
البقية على عدد كبير من الأحزاب ذات التوجهات المختلفة (تراوحت حصة كل منها بين
المقعد والمقعدين).
ونشير هنا إلى أن هنالك 120 مقعدًا آخر
للمقاعد الفردية، وفي ظل حداثة عهد الشعب الليبي بالأحزاب والانتخابات (فقد كان
القذافي يرفع شعار من تحزب فقد خان) فكان من الصعب تحديد توجهات سياسية لكافة الأفراد
أو حتى الأحزاب المشاركة، فالأمر يحتاج لبضع سنوات حتى تختزل الأحزاب في بضع أحزاب
كبيرة وتستقر الخارطة الحزبية في ليبيا.
لكن ما يهمنا في هذا المقام هو الكلام حينها
عن فشل المشروع الإسلامي، والذي اعتبروه مفاجئًا لأن المجتمع الليبي مجتمع محافظ
ولم يبتلى بتيار علماني قوي ومتجذر (مثل تونس ومصر وتركيا)، وفسروه بأنه ردة فعل
من الشعب الليبي على فشل الإسلاميين في إدارة شؤون مصر وتونس (وهو تحليل سطحي
وساذج لأن دوافع الناخبين في أي بلد تكون داخلية وحسب ما يلمسونه ويعايشونه لا حسب
ما يرونه على الفضائيات في بلدان أخرى).
وهنا سأستعرض الأدلة التي تنفي ما قيل وقتها
عن فشل المشروع الإسلامي في ليبيا وتثبت أن ليبيا تمثل نموذجًا مميزًا يمكن أن
يكون قدوة للدولة الإسلامية المرتقبة:
أولًا، الذي أطلق على التحالف من أجل الوطن مسمى التيار
الليبرالي هو إعلام الفضائيات العربية التي كانت تبحث عن إثارة (علمانيين مقابل
إسلاميين) وإسقاط تجاذبات الوضع التونسي والمصري على الواقع الليبي، في حين أن
قيادات هذا التحالف نفت تكرارًا ومرارًا وصفها بالليبرالية وأصرت على أنها تؤيد
"الإسلام الوسطي" وهو مصطلح مطاطي إلا أن مجرد التصريح به فهو يدل على
أنهم سوقوا أنفسهم على أساس انتمائهم للإسلام ولم يسوقوا أنفسهم على أنهم علمانيين
أو ليبراليين، فمن انتخبهم لم ينتخب لا العلمانية ولا الليبرالية.
ثانيًا، الأحزاب الإسلامية لم تخض الانتخابات في قائمة واحدة
(على عكس منافسيهم من التيار المسمى ليبرالي)، فتبعثرت أصواتها وربما خسرت مقاعد
هنا وهناك بسبب ذلك، وإن كان عدم وضوح الولاءات والتحالفات في المؤتمر يصعب من
تحديد حجمها بشكل واضح لكن الكتلة الإسلامية في المؤتمر هي إحدى ثلاث كتل رئيسية
في المؤتمر (وهي ليست كتل بالمعنى المتعارف عليه بقدر ما هي تجمعات فضفاضة).
ثالثًا، أكبر ثقل في المؤتمر الوطني الليبي لما يسمى بالمستقلين
وأغلبهم يحملون فكرًا متدينًا ومحافظًا وإن لم ينتموا للتيار الإسلامي، بل إن بعض
الأحزاب تتبنى فكرًا محافظًا ودينيًا دون أن تنتمي للتيار الإسلامي ومنها حزب
الجبهة الوطنية الذي ينتمي له رئيس المؤتمر الوطني محمد المقريف.
وهذه ظاهرة برزت في الأعوام الأخيرة وبأكثر
من بلد عربي وإسلامي نتيجةً للمدّ الإسلامي وجهود التيار الإسلامي، فكان أن ظهرت
جماعات وأحزاب تتبنى الفكر الإسلامي دون أن تنتمي للتيار الإسلامي (أو ما يطلق
عليه الإسلام السياسي أو الجماعات الحركية) بكافة أفرعه (الإخوان والسلفيين وحزب
التحرير والسلفية الجهادية وغيرهم)، وهي تنطلق من عدة منطلقات متباينة:
فهنالك أحزاب نشأت في بلدان علمانية حاولت
التكيف معها وأن تبني تحالفات مع قوى اجتماعية تتحسس من التيار الإسلامي مثل حزب
العدالة والتنمية في تركيا، وهنالك أحزاب خرجت من التيار الإسلامي لأنها ترى أن
رسالتها يجب أن تكون لكافة المجتمع وليس فقط "للنادي المغلق الإسلامي"
ومن أمثلتها حزب الوسط وحزب مصر القوية في مصر، وهنالك أحزاب هي بالأصل غير
إسلامية تبنت في وقت لاحق طروحات وأفكارًا إسلامية ودينية نتيجة التغيرات
الاجتماعية مثل حزب العمل في مصر ومثل الجبهة الوطنية في ليبيا.
رابعًا، لعب التيار الإسلامي وحلفاؤه دورًا هامًا بفوز محمد
المقريف برئاسة المؤتمر الوطني، حيث فاز بواقع 113 صوتًا مقابل 85 صوتًا لعلي
زيدان ممثل التحالف الوطني (الليبرالي)، وهذا يعطينا فكرة جيدة عن قوة التيار
الإسلامي.
خامسًا، عندما يكون طرح كافة الأحزاب والكتل والمرشحين هو تبني
الخيار الإسلامي، فوقتها سيتوجه الناخب نحو مواصفات أخرى مثل الشخوص والأسماء
المترشحة أو برامج العمل، وهنا يمكن القول أن التيار الإسلامي يجب أن يبحث عن ما
يميزه على صعيد البرامج والخطط، وعدم الاكتفاء بشعار الإسلام، فالكل أصبح يرفعه اليوم
(باستثناء جزر علمانية متعصبة هنا وهناك)، فالطرح الإسلامي لم يعد حكرًا على
التيار الإسلامي.
سادسًا، خلال العام الذي مرّ شهدنا أحداثًا اثبتت كذب بشرى انهيار
المشروع الإسلامي، فعلى الصعيد الليبي رأينا المجلس الوطني يقر قانونًا يلغي
الفوائد الربوية من البنوك، وقبل أيام قامت الشرطة الوقائية الليبية بالقبض على
مجموعة تبشيرية مسيحية في بنغازي، وهي مؤشرات واضحة على الطابع الإسلامي المحافظ
للنظام الليبي الجديد، وحتى على الصعيد المصري الذي قيل أن المشروع الإسلامي قد
فشل فيه رأينا كيف أنه وبعد أن فاز محمد مرسي بفارق أصوات ضئيل للغاية بانتخابات
الرئاسة فقد تمكن من تمرير مشروع الدستور بأغلبية كبيرة من الأصوات (مما عكس ثقة
متزايدة من الشارع المصري به وبالإخوان المسلمين).
في الختام: نستطيع القول أن ليبيا تمثل نموذجًا تقدم فيه المشروع
الإسلامي بدون أن يتقدم الإسلاميون "التقليديون"، نموذج تبنى المجتمع
كله الإسلام وفرضه على برامج كافة الأحزاب والمسؤولين بما فيه
"الليبراليون"، وربما لم يفز
الإخوان المسلمون بأغلبية الأصوات لكن المشروع الإسلامي هو المهيمن وليبيا تطرح
لنا نموذجًا جديدًا لإعادة بناء الدولة على أسس الانتماء للإسلام وعقيدة الشعب
الليبي.
ولا أنسى هنا أن أذكر المستشار مصطفى عبد
الجليل القائد المميز الذي كان من أوائل المنشقين عن نظام القذافي وقاد الثورة
الليبية إلى أن وصلت بر الأمان ثم قرر التنحي وترك الفرصة لغيره بعد أن أتم المهمة
بنجاح، ليمثل نموذجًا لقائد إسلامي ثوري وحضاري ليكون نجاحًا آخر يحسب للمشروع
الإسلامي (بالرغم من عدم انتمائه لحزب إسلامي).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق