الأحد، 10 فبراير 2013

حرية تعبير أم تهديد للوحدة الوطنية؟



لطالما عودتنا أنظمة الاستبداد على أن حرية التعبير هي مرادف للفوضى غير الخلاقة وباب للشيطان سيدمر الأوطان، وأنه يجب الاقتداء بما يراه الحاكم حتى لو أخطأ لأن ألف عام في ظل سلطان جائر خير من يوم بدون سلطان.
 
ولطالما صوروا لنا الأمور على أنها إما الاستبداد والاستقرار أو الحرية والفوضى والهلاك، وانهارت هذه المعادلة مع انطلاقة الثورات العربية وتهاوت، وأصبحت الحرية مطلبًا للجميع وفي خضم التغيرات المصيرية التي يشهدها العالم العربي اختلطت الأمور، فالكل يغني على ليلاه والكل يطالب بحرية ما يراه مناسبًا ومريحًا له، وفي المقابل نرى من يترحم على أيام الاستبداد وأن القادم أسوأ (وكأننا لم نكن في قاع القاع من قبل).

والواقع أن هذا التدافع والتناوش الذي نراه هو أمر طبيعي فنحن نمر بمرحلة انتقالية ولم تستقر قواعد اللعبة بشكلها النهائي، علمًا بأنّ هنالك بديهيات لا يجب النقاش فيها وهنالك أمور خلافية تحتاج لوقت حتى تستقر، إلا أننا وصلنا لدرجة أنه حتى البديهيات فتحت وتناقش.

وبما أن معادلة "حرية التعبير في مقابل تهديد الوحدة الوطنية" هو ما يشغل بال الناس اليوم، فلا هم يريدون العودة لعهود الاستبداد ولا هم يقبلون بمظاهر الفوضى، والعين مسلطة بالدرجة الأولى على بلدان الربيع العربي (وبالأخص مصر وتونس) لأنها نموذج لما يمكن أن يقودنا إليه الربيع العربي.

ولا نريد الغوص بتفاصيل ما حدث ويحدث في مصر وتونس وغيرها من البلدان العربية، بقدر ما نريد تحديد المعضلات التي تواجهنا ثم سنحاول التمييز بين المفاهيم التي تثير الالتباس.

حق التظاهر مقابل التخريب:


المظاهرة في مصر وتونس كانت قاطرة الثورة، واستخدم المتظاهرون العنف ولو بشكل محدود لمقابلة عنف الأجهزة الأمنية، وكان بمثابة الملح الضروري لإنضاج "طبخة الثورة".

والبعض يرى بما أن المظاهرة كانت قاطرة الثورات فهي مقدسة، وكما سمح لخصوم مبارك وبن علي اللجوء للشارع، فيجب السماح لخصوم مرسي والنهضة اللجوء للشارع، فهذه "قيم الحرية الجديدة".

وفي المقابل هنالك من يقول أن التظاهر ضد سلطة جاءت بفضل الثورة هي ثورة مضادة يجب قمعها، بل نرى من يطالب بحسم عسكري (مثلما حسمت حماس قطاع غزة ضد فتح).

وهنا يجب أن نميز عدة أمور:

أولًا، التظاهر هو حق لكن بدون اعتداء مادي على الممتلكات والأشخاص، والحكومة يجب أن تسمح بالتظاهر والتعبير عن الرأي بما فيه خصومها، لأن الدولة هي ملك الجميع وليست ملك الحزب الحاكم كما كان سابقًا.

ثانيًا، الثورة واستخدام القوة ضد النظام سواء في مصر أو تونس أو سوريا أو ليبيا أو اليمن  أو في روسيا وفرنسا سابقًا، هي حالة غير طبيعية واستثنائية وليست حقًا لكل من لم يعجبه نظام الحكم وإلا كانت فوضى.

والثورة لا أحد يأخذ القرار بها لأنها حالة غير طبيعية كما لا يمكن التنبؤ بمسارها، وقد تنقلب الأمور وتنتكس (الثورة ضد الملكية في إسبانيا في ثلاثينات القرن الماضي فشلت وأتت بفرانكو دكتاتورًا لأكثر من 40 عامًا، والثورة في حماة فشلت واستبد نظام الأسد بعدها بشكل أبشع).

الثورة هي نتيجة لانسداد طرق التفاهم مع النظام القائم فينتفض المجتمع بعد الوصول لقناعة أنه لا يمكن تغيير الوضع القائم بأي طريقة أخرى، ولا أحد يشاور ولا أحد يسأل عندما تنطلق الثورة، وهي قد تأتي مثل الزلزال بدون نذير مسبق وقد تأتي مثل البركان وتعطي تحذيرات مسبقة.

أما طالما هنالك طريقة لتسوية الخلافات المجتمعية والسياسية، وخصوصًا عندما تكون هذه الطريقة هي اللجوء إلى صندوق الانتخابات، فلماذا اللجوء للقوة؟ ولماذا اللجوء للعنف؟ ولماذا الافتراض أن الشارع سينجر ورائي كحزب أو تنظيم لأني طلبت منه ذلك؟

حرية الرأي مقابل التشهير:


في خضم الربيع العربي انطلق الكثيرون يعبرون عن آرائهم وأحيانًا من خلال السب والشتم والكلام غير اللائق، بما فيه الدول التي لم تشهد تغييرًا، وقد رأينا كيف انقضت السلطة بأكثر من بلد على أشخاص لمجرد أن عبروا عن آرائهم المطالبة بإسقاط النظام أو حتى كلامًا اعتبر جارحًا للزعيم.

فرأينا محاكمات (أو استجوابات) لأفراد ونواب سابقين في الكويت بتهمة التطاول على الذات الأميرية، وفي الأردن بتهمة التطاول على الذات الملكية، وفي السلطة بتهمة التطاول على المقامات العليا.

وأحيانًا انحدرت التهم إلى مستوى محاسبته على تعليق عادي مثل أنس عواد الذي حُكِم عليه بالسجن لمدة عام لأنه علق على زيارة عباس لملعب فريق برشلونة بأنه يصلح لأن يكون "لاعب هجوم"، أو أحمد زيد من قلقيلية المعتقل لأنه طالب على صفحته بالفيسبوك بإعادة كيلوغرام ذهب صادرته منه المخابرات العامة بدون إعطائه وصلًا بذلك.

كما نرى من يطالب بمحاسبة من يتهجم بألفاظ مسيئة على الرئيس محمد مرسي، أو يحرض على الحكومة المصرية، ورأينا حماس في غزة تعتقل أفرادًا من فتح لأنهم تآمروا على تشويه صورة حماس وتصيد أخطائها و"إثارة الفتنة بينها وبين فتح"، وفي كل الحالات المبرر هو أحد اثنين: إما أن المتكلم يكذب وفي هذا تشهير وقذف، أو أن كلامه سيؤدي لضرر وطني وسيتسبب بفتنة.

المبررات من حيث المبدأ تبدو منطقية لكن هنا يجب أن نضع المحاذير التالية:

أولًا، في غالب الأحيان لا يوجد تناسب بين الخطأ والعقوبة، فهل يعقل أن تسلب من عمر الشخص خمس سنوات يقضيها وراء قضبان السجن من أجل كلمة قالها بحق "الذات الأميرية"؟ أو أن تسجن شخص لعام لأنه استهزئ من المقام العالي لمحمود عباس؟ أو أن تسجن شخص لعدة أيام لمجرد أنه أراد الكشف عن أخطاء حماس (لاحظوا أراد الكشف ولم يرد الكذب)؟

إذا كانت هذه العقوبة على الكلام، فماذا كانت ستكون العقوبة لو أنّ الشخص ألقى حذائه على الذات الأميرية أو المقام العالي؟ هل كانوا سيقطعون رأسه؟

هنالك الكثير من الأفعال التي نراها قبيحة لكن لا تستوجب العقوبة، فمثلًا الغيبة والنميمة والسخرية والكلام البذيء كلها أفعال لا يرضاها لا شرع ولا عرف ولا عقل، لكن (ولنتكلم عن حكم الشرع) هل يوجد لهذه الأفعال عقوبة تنفيذية؟

ثانيًا، فيما يتعلق بمبرر الضرر بالوحدة الوطنية أو التماسك الوطني أو إحداث الفتنة، فالملاحظ أن التوسع بملاحقة هؤلاء الأشخاص سيؤدي إلى المحاسبة على أمور عادية جدًا، فهل أن يعبر المرء عن امتعاضه من أداء حكومة ما أو أن يقول رأيًا يخالف الحاكم أو الحزب الفلاني هو مدخل للفتنة؟

ثالثًا، فيما يتعلق بالقذف والتشهير فيجب أن نفرق بين شخص ذكر معلومة غير صحيحة (كاذبة) عن المسؤول وبين من ذكر رأيه به؛ فمن يقول فلان سرق أو علان زنا، ولم يأت ببينة ودليل فهذا اسمه قذف وتشهير، وهو حق شخصي يمكنه أن يلاحق من أساء إليه ويمكنه أن يعفو عنه، وجرت العادة أن يترفع المسؤولون عن ملاحقة هذه الاتهامات بحكم أن هذه ضريبة وجودهم بالحكم.

أما من قال مرسي فاشل أو حماس جماعة باعت الآخرة أو الإخوان ليسوا المثال الجيد للإسلام، فهذا رأي ومهما كان قاسيًا أو غير لائق أو غير صحيح، فهو لا يعتبر قذفًا ولا يجوز محاسبة قائله قضائيًا إلا أنه يمكن الرد عليه ويمكن تفنيد الكلام والرد عليه.

محاسبة المخطئ ومحاسبة الجماعة:


الكثير من الجماعات تدعو إلى ممارسة العنف مثل البلاك بلوك في مصر وبعض الجماعات السلفية الجهادية في تونس، وفيما نرى دعوات لمحاسبة كل المنتمين لهذه الجماعات والمتعاطفين معهم أو حتى التيارات الفكرية القريبة منهم، نرى آخرين يدافعون عنهم ويقولوا هذه حرية رأي وحاسبوا فقط الأشخاص الذين أخطأوا بل قد نجد من يدافع عن الأفراد المخطئين ويقول حاوروهم فالعقاب لا يجدي وافهموا منهم لماذا قاموا بهذا الفعل، وإن اعتقلوا اعتبرهم سجناء سياسيون.
 
هنا يجب التمييز بين عدة أمور:

أولًا، هنالك سجين سياسي وهنالك جريمة سياسية، والسجين السياسي هو من يسجن بسبب رأيه، أما الجريمة السياسية فهي الجريمة التي ترتكب بدوافع سياسية، وهي جريمة يجب معاقبة مرتكبها مثله مثل غيره من المجرمين، وإلا فنحن نشرع للقتل ونشرع للسرقة ونشرع للتخريب.

ثانيًا، محاسبة الأفراد المخطئين لا تجيز الانتقام من الجماعة التي ينتمون إليها أو القريبة منهم فكريًا، إلا في حال كانوا شركاء لهم بتنفيذ الجريمة، والتشابه الفكري ليست شراكة بتنفيذ الجريمة، فالشراكة تكون بأن يطلب فلان من فلان أن يقتل أو يدفع له المال ليشتري به السلاح ويفعل به كذا وكذا.

ثالثًا، عدم محاسبة الجماعات التي تفرخ العنف جنائيًا لا يعني عدم محاسبتها فكريًا، ولا يعني عدم محاسبتها إعلاميًا، فالجماعة التي يتكرر خروج مجرمين منها يحرقون ويكسرون ويدمرون ويقتلون عندها خلل فكري وربما عقدي، ويجب أن تفضح فكريًا حتى لا نجمل هذه الأفعال في عيون الشباب ويقلدوهم، يجب أن تحاسب إعلاميًا حتى نضعها أمام خيار إما أن تراجع نفسها أو أن ينفض الناس من حولها.

حماية الثورة ودولة القانون:

البعض يعتبر الثورات مراحل استثنائية وحساسة وبالتالي يجب الضرب بيد من حديد على كل من يشوش على الثورة بدون اعتبار لحقوق إنسان أو حقوق سياسية أو دولة القانون، فهذه رفاهيات لا وقت لها في الأوضاع الصعبة.

وهذا الطرح من أخطر ما يمكن أن يخرب الثورات، فعبد الناصر استبد وخرب مصر بحجة حماية الثورة وكذا فعل القذافي وكذا فعل نظام الأسد (ألا يقتل اليوم عشرات الآلاف من السوريين بحجة حماية مشروع المقاومة)، والثورة الفرنسية أعدمت أكثر من أربعين ألف إنسان (أغلبهم من الثوار أنفسهم) وكان يتم إعدامهم بحجة حماية الثورة، فسميت السنوات الأولى للثورة الفرنسية بحكم الإرهاب، وكان أبرز قادة الثورة الفرنسية ماكسميليان روبسبير يلقب بالإرهابي الذي لا يمكن رشوته.

لقد بدأ روبسبير بإعدام قادة الجناح "المعتدل" بالثورة الفرنسية ثم انتقل لكافة خصومه السياسيين، ولم ينتهي عهد الإرهاب إلا بالقبض عليه وتقديمه لمحاكمة وإعدامه (في نفس يوم القبض عليه حتى لا يستطيع مؤيديه إنقاذه).

واليوم نجد إيران تحكم بهيئات وقوانين استبدادية وذلك بحجة حماية الثورة الإيرانية، ولحد اليوم وبعد 35 عامًا من الثورة ما زلنا نرى تجاوزات ترتكب باسم الثورة.

لذا يجب التأكيد على الآتي:

أولًا، لم تصل البشرية بأي مكان في الدنيا إلى مرحلة الاستقرار التام حتى نؤجل بناء دولة القانون إلى حين وصولنا إلى مرحلة الاستقرار، فدائمًا هنالك مشاكل وتحديات ومنغصات، فحتى أكثر دول العالم رفاهية ستجد لديهم مشاكل ومعضلات.

ثانيًا، إذا كان هنالك وضع اسثتنائي فيقدر بقدره بدون توسع، فمثلًا وضع غزة الاستثنائي يعطي القسام وضعًا خاصًا خارج الرقابة العلنية لأن هنالك الصهاينة يتجسسون ويرصدون، لكن لا يجب التوسع لمنع الرقابة على عمل بلدية غزة أو وزارة الصحة أو وزارة التعليم، فما علاقة هذه الهيئات بالمقاومة المسلحة؟

ثالثًا، عندما تطول المرحلة الاستثنائية فيجب أن ندرك أن هنالك خلل ما، فلا يعقل أن تمر أربعون سنة أو ثلاثون سنة ونحن نؤجل كل شيء بحجة الوضع الاستثنائي، فلا يمكن أن تتعطل كل مناحي الحياة حتى ننجر المهمة الاستثنائية.

ليست هناك تعليقات: