بعد نيل فلسطين عضوية مراقب في الأمم المتحدة
ثار جدل ولغط كثير حول أثر هذه الخطوة على القضية الفلسطينية، بين من اعتبرها
نهاية المطاف وغاية المرام والنصر المؤزر، وبين من اعتبرها كارثة جديدة وتصفية
للقضية الفلسطينية غير مفرق بين تنازلات محمود عباس ومواقفه التي لا يرضى عنها أي وطني
شريف وبين العضوية في الأمم المتحدة والتي سنناقش فيما يلي جدواها ومحاذيرها.
لا تغيير على أرض الواقع:
عضوية فلسطين في الأمم المتحدة لا تعني أي تغيير على أرض الواقع لا في
قطاع غزة ولا الضفة الغربية ولا فلسطين المحتلة عام 1948م، وحتى لو نص القرار على
ذلك فسيرفض الصهاينة وبدعم أمريكي تنفيذ القرار بكل صلافة كما رفضوا من قبل كل
قرارات الأمم المتحدة التي في صالح الشعب الفلسطيني.
السلطة الفلسطينية لن يتغير وضعها القانوني،
واتفاقية أوسلو لن تتغيير ولن تترسخ ولن تلغى (حسب القرار)، وتهديد بعض الصهاينة
بإلغاء اتفاقية أوسلو يبقى مجرد تهديد ولا أظنهم سيقدمون عليه لأن البديل سيكون
انتفاضة ثالثة تقضي على الهدوء الذي يسود الضفة الغربية والذي أتاح للسرطان
الاستيطاني بالتمدد غير المسبوق.
وحتى التلويح بوقف تحويل أموال الضرائب التي
يجمعها الكيان لصالح السلطة يشكل معضلة للصهاينة: فهذه الأموال تمثل الخيط الرفيع
الذي يمسك الوضع في الضفة وبالكاد يمنعه من الانفجار، فإن قطعه الصهاينة سيؤزم
الوضع ميدانيًا، وإن سكتوا ولم يقطعوه ستكون رسالة ضعف من الصهاينة تغري
الفلسطينيين لكي يطالبوا بالمزيد.
عضوية فلسطين تعني أنّها يمكن أن تصبح عضوًا في
عدد من المؤسسات الدولية وأهمها محكمة الجنايات الدولية وإمكانية رفع قضايا على
قادة الاحتلال الصهيوني ومحاكمتهم على كافة الجرائم سواء كانت مذبحة جنين أو الحرب
على غزة، أو التهجير (الذي يتم في هذه الأيام) المنهجي والعنصري لسكان التجمعات
الفلسطينية في غور الأردن وشرق القدس (عرب الجهالين) وجنوب الخليل (قرى يطا)، كما
يمكن لفلسطين أن تتوجه لمحكمة العدل الدولية ورفع قضايا تخص شرعية الاستيطان
الصهيوني في الضفة أو حتى المطالبة بحق عودة اللاجئين وإعادة أملاكهم.
وهذه كلها أمور تبقى في الإطار الرمزي والمعنوي
والأدبي، ما لم تجد طريقها إلى التطبيق وإجبار الصهاينة على الالتزام بها أو
بغيرها.
القرار لا يتكلم عن حدود
الدولة الفلسطينية:
من الضروري الإشارة إلى أنه وبالرغم من تضمن
ديباجة القرار الذي تقدمت به السلطة إلى الأمم المتحدة كلامًا عامًا عن حل
الدولتين والحل العادل لقضية اللاجئين، إلا أن هذا لم يكن شرطًا لقبول العضوية،
كما أن عدم ذكر حدود الدولة الفلسطينية هو أمر إيجابي، لأنه لا يلزمنا بدولة
الـ22% التي يبشرنا بها محمود عباس.
القرار بجانبه العملي والتطبيقي يتكلم عن عضوية
فلسطين بصفة مراقب فقط لا غير، ولا يتكلم عن شكل الدولة ولا حدودها، وبالتالي لا
أساس للمخاوف التي يطرحها بعض الناس من أن القبول يلزمنا بدولة على الضفة والقطاع
ويسقط حق العودة وغيرها من المخاوف المشروعة.
أما الكلام عن أن مجرد الانضمام يعني الالتزام
بقوانين الأمم المتحدة والتي تحث على احترام الجيران وتحرم الاعتداء عليهم، فهذا
مردود عليه من ناحيتين: الكثير من الدول الأعضاء وعلى رأسها الكيان الصهيوني لم
تحترم هذه القوانين والالتزامات، والكيان الصهيوني تحديدًا كان شرط قبول عضويته في
الأمم المتحدة هو تطبيق قرار حق عودة اللاجئين الفلسطينيين المعروف بقرار رقم 194،
ولم يطبق الصهاينة هذا الشرط وما زالوا أعضاءً لليوم!
لماذا لا نتعامل بنفس أسلوب الصهاينة؟ فهم قبلوا
بالجزء المتعلق بهم من قرار التقسيم، ورفضوا الجزء الآخر المتعلق بقيام دولة
فلسطين، وعندما أعلنوا قيام دولتهم عام 1948م استندوا على هذا القرار، لكنهم بنفس
الوقت دخلوا المناطق المخصصة للدولة الفلسطينية واحتلوا قسمًا كبيرًا منها وحاولوا
احتلال باقي المناطق (خلال حرب عام 1948م: احتلوا جنين وعدد كبير من قراها لمدة
ثلاثة أسابيع وقلقيلية لبضعة أيام قبل أن يطردهم الجيش العراقي، وحاولوا احتلال
رام الله والقدس الشرقية، والتفوا على الجيش المصري ودخلوا سيناء محاولين احتلال
غزة، إذن كانت نواياهم إقامة دولة يهودية على كامل فلسطين رغم قرار التقسيم).
فإن كان الصهاينة خرقوا شروط انضمامهم للأمم
المتحدة فلماذا نقول أنه يجوز للصهاينة أن يكونوا أعضاء في الأمم المتحدة وبنفس
الوقت يختارون ما يعجبهم من قرارات؟ بينما الفلسطيني مطالب بتطبيق كل شيء؟
الناحية الثانية، الالتزام بالمعاهدات
والاتفاقيات هو التزام أدبي وأخلاقي فقط لا غير، ما لم توجد آليات لجعلها إلزامية،
ولهذا تضمنت اتفاقية أوسلو التنسيق الأمني واتفاقية كامب ديفيد إقامة منطقة عازلة في
سيناء، لأنه بدون هذه الترتيبات العملية، فسيأخذ الفلسطينيون والعرب من الصهاينة
اليوم ويتنكروا لكل شيء في اليوم التالي، ولهذا يوجد البند السابع في ميثاق الأمم
المتحدة يلجأ إليه عندما يراد إجبار وإلزام دولة معينة على تطبيق بعض قراراته.
قرار قبول عضوية فلسطين لا يتضمن أي جوانب
إجرائية أو عملياتية تكرس القبول بكيان الصهيوني أو حقه في الوجود أو تكرس إسقاط
مبدأ حق العودة، بالتالي لا خوف من هذه الناحية.
هل العضوية تعني تجريم
المقاومة؟
البعض يطرح تخوفًا من أن العضوية تعني القبول
بقوانين الأمم المتحدة التي تجرم المقاومة، وتجعل من الممكن محاكمة قادة المقاومة
بتهمة الإرهاب أمام محكمة الجنايات الدولية، وهذا تخوف لا أساس له، لأنه وبحكم أن
الطرف الفلسطيني هو الطرف الأضعف فقد كانت تطبق عليه كل قوانين مكافحة ما يسمى
بالإرهاب رضي بها أم لم يرض.
ابتداءً من مؤتمر شرم الشيخ عام 1996م والذي جرم
حركتي حماس والجهاد الإسلامي بالرغم من أنه لم يكن مؤتمرًا أمميًا، وانتهاءً
بتقرير جولدستون والذي أدان حماس لأنها كانت تقصف "المدنيين الصهاينة"،
وعندما شكلت حماس حكومتها عام 2006م وبقرار من وزارة الخزانة الأمريكية (وليس
الأمم المتحدة) فرض على كافة بنوك العالم بما فيه الفلسطينية عدم التعامل مع
الحكومة.
فعمليًا ما الذي سيتغير؟ لا شيء، والعالم أثبت
أنه يقف مع القوي، ولا يتعامل مع قوانين ولوائح بقدر ما يتعامل مع موازين قوة،
والدليل على ذلك هو أن تعاطف العالم مع غزة كان في هذا العام أقوى من عام 2009م،
بالرغم من أن خسائر الفلسطينيين كانت وقتها أكبر من اليوم، بينما طالت صواريخ
"الإرهاب" تل أبيب في الحرب الأخيرة لتكون لها الأثر القوي على العديد
من دول العالم دفعتهم لتأييد قرار العضوية.
تنازلات أبو مازن ليست
ضمن القرار:
ربما أكثر ما يجعل الناس مرتابين من هذا القرار
هو أن محمود عباس كان يقف وراء الذهاب إلى الأمم المتحدة، وتصريحاته الخطيرة
والمسيئة والتي تتكلم عن عدم نزع الشرعية عن الكيان الصهيوني، والتي سبقها تنازله
عن حق العودة بطريقة مثيرة للإشمئزاز.
وهنا من الضروري التنويه إلى أن سقف القرار أعلى
من سقف أبي مازن (على الأقل لا سقف واضح للقرار ويمكن للفلسطينيين رفعه عاليًا إن
أحسنوا إدارة المعركة)، ومن دعم القرار لم يدعم مشروع عباس السياسي بل دعم فلسطين
وحقها المشروع، وكلمات أبي مازن لا تلزم أحدًا لا بنص القرار ولا بروحه.
وبالنهاية هذا إنجاز للشعب الفلسطيني وليس لأبي
مازن ولا خطه التفريطي، بل كما بينا هو إنجاز لخيار المقاومة: فلولا حرب غزة لما
كانت موجة التعاطف الدولية التي أتاحت تجنيد التأييد الساحق للعضوية، ولولا الخوف
من انفجار الوضع في الضفة لمورست ضغوط هائلة لا يمكن لأبي مازن أن يحتملها،
وبالتالي لولا المقاومة لتكرر نفس سيناريو العام الماضي عندما فشل طلب العضوية
للأمم المتحدة.
إيجابيات الانضمام:
مما سبق نستنتج أن الانضمام إلى المتحدة بعضوية
ناقصة، لا يضر القضية الفلسطينية، ولا يسقط حق العودة ولا يسقط حقنا ببقية فلسطين،
ولا يلزمنا بتنازلات أبي مازن، وبنفس الوقت أظهر لنا مدى زخم القضية الفلسطينية
والحصار الديبلوماسي والشعبي الذي يعاني منه الكيان الصهيوني في العالم، ومعاناته
من عزلة متزايدة منذ اندلاع انتفاضة الأقصى، اشتدت حدتها بعد حرب غزة الأولى
وحادثة أسطول الحرية، وبلغت ذروتها بعد حرب غزة الأخيرة.
ولا شك أن الأدوات الديبلوماسية والقضائية التي
توفرها العضوية هي أدوات ضعيفة لوحدها ولا أثر حقيقي لها، لكن بمساندة المقاومة
على الأرض (بشقيها المسلح والشعبي) وبالاستفادة من الزخم الدولي المتعاظم للقضية
الفلسطينية، يمكن أن تشكل أدوات فعالة لمحاصرة الكيان الصهيوني كما حوصر النظام
العنصري في جنوب أفريقيا أواخر القرن الماضي، فيكون لدينا: مقاومة تستنزف بالداخل،
وحصار من الخارج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق