اكتشاف أثري إسلامي هام للغاية، ليس فقط بسبب
الأهمية التاريخية والأثرية لما تم اكتشافه، بل لأنه يبرز الصراع المحتدم مع
الكيان الصهيوني على هوية هذه الأرض وانتمائها، ومع ذلك لم ينل الاهتمام الكافي لا
من الإعلام العربي والإسلامي ولا من الساسة العرب والفلسطينيين.
وما نتكلم عنه هنا هو أكبر المساجد الأثرية
المكتشفة في فلسطين، مسجد يشبه إلى حد كبير المسجد الأموي في دمشق، ومساحته أكثر
من سبعة آلاف متر مربع ويتسع لآلاف المصلين، إنه المسجد الأموي في مدينة طبريا.
وجاء هذا الاكتشاف بمجهود باحثة برازيلية تدعى كاتيا
تسيترين سيلبرمان وتعمل محاضرة في الجامعة العبرية بالقدس المحتلة، وذلك بعد
اكتشافها محراب المسجد، حيث كان علماء الآثار الصهاينة يقولون طوال عشرات السنوات
أن المكان هو عبارة عن سوق روماني مسقوف، وأكّدت الباحثة أن علماء الآثار الصهاينة
عادة ما يهملون الآثار الإسلامية ويعملون فقط بالبحث عن الآثار البيزنطية
واليهودية.
ويشير هذا الاكتشاف الهام إلى أن مدينة طبريا
كانت مدينة مركزية وهامة في العصر الأموي، كما يشكف عن ممارسات تزوير صهيونية
وتعمد طمس أي أثر إسلامي في فلسطين، والأنكى من ذلك يكشف ضعف التفاعل العربي
والإسلامي مع الحدث، وكأنه يتعلق باكتشاف أثري في جبال الأنديز أو في الصين!
الاهتمامات الأثرية في
عالمنا العربي:
أغلب أعمال التنقيب الأثرية في عالمنا العربي يتولاها
علماء غربيون، ويكاد عملهم يقتصر على التنقيب والبحث عن الآثار التي ضمن إطار
اهتماماتهم ومرجعياتهم الفكرية والثقافية، ففي مصر التركيز على الآثار الفرعونية
وفي فلسطين كان التركيز والاهتمام منذ أواخر القرن التاسع عشر على البحث عن الآثار
التوراتية والمسيحية البيزنطية والرومانية والهلنستية، فيما الاهتمام بالآثار
الإسلامية ضعيف للغاية ومحدود.
وإن كان الاهتمام الغربي بالآثار يتجاوز الآثار
الإسلامية إلا أننا لم نلمس أي اهتمام عربي وإسلامي بتاريخنا ابتداءً من عصر
الخلفاء الراشدين وانتهاءً بالعصر العثماني، بل إنّ وزارات السياحة العربية تهتم
بما يهتم به الغربيون بحكم أنه مصدر دخل مالي، مواصلة سياسة الإهمال بالآثار
الإسلامية.
وحتى على مستوى المواطن العربي فالنظرة إلى
الآثار على أنها فرصة للإثراء من خلال البيع غير القانوني لتجار الآثار الغربيون
(أو الصهاينة بالحالة الفلسطينية)، أو أنها بنايات قديمة يجب هدمها من أجل استثمار
الأرض.
وكانت النتيجة لهذه السياسة هو إبراز الآثار غير
الإسلامية وتعزيز حضورها، في مقابل طمس وتغييب للآثار العربية والإسلامية، بحيث
يقتصر تاريخ العرب والمسلمين على ما يروى في الكتب بدون أن يجد ما يعززه بقوة على
أرض الواقع.
فمن يتتبع الخارطة السياحية في فلسطين يجد
الأماكن المقدسة التوراتية، بينما الآثار الإسلامية الأموية والعباسية والمملوكية
والعثمانية تعيش على الهامش وكأنه لا وجود لها على الإطلاق.
وتتجاوز مشكلة الوعي بأهمية الآثار في العالم
الإسلامي التجاهل والإهمال إلى الاعتداء والتدمير عليها مثل ما حصل بعملية هدم
تماثيل بوذا وتدمير الأضرحة التاريخية في الصومال وليبيا ومالي، فنجد أنفسنا أمام
عملية ممنهجة لتدمير كل ما يمت لتاريخ بلداننا بما فيه التاريخ الإسلامي نفسه.
لماذا الآثار مهمة؟
وقد يتساءل المرء وماذا يفيد الاهتمام بعلم
الآثار؟ وفي حالة المسجد الأموي بمدينة طبريا ما الذي يضيفه بالنسبة لنا؟ ألسنا
مقتنعين أن هذا بلد عربي إسلامي منذ أن فتحها عمر بن الخطاب؟ ما الذي نريده من هذه
الاكتشافات؟
بداية هذه الاكتشافات هامة لأنها تؤكد الروايات التاريخية التي نقرأها بالكتب،
وليس السامع كالمعاين، ومهما كانت ثقتنا بما نقرأه من روايات تاريخية فهي لا ترقى
لدرجة ثقتنا بما نراه ونلمسه من دلائل مادية، وهذا منهاج إبراهيم عليه السلام
"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ
تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قلبي".
وكانت الروايات التاريخية تحدثت عن أن طبريا
كانت عاصمة جند (ولاية) الأردن في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين، وشملت حدودها
ما يعرف اليوم بشمال فلسطين وجنوب لبنان والأغوار الشمالية وشمال الأردن والجولان،
وهذا الاكتشاف هو تأكيد إضافي لمصداقية المصادر التاريخية التي ذكرت مثل هذه
المعلومات.
ثانيًا ترد هذه الاكتشافات على المشككين بتاريخنا وعقيدتنا الإسلامية، وفي حالتنا
الفلسطينية فهذه الحاجة أكبر، وخاصة وأن أحد أعمدة المشروع الصهيوني هو الزعم
بيهودية هذه الأرض وأن العرب والمسلمين كانوا مجرد غزاة عابرين، بل وهنالك ملحدون
وعلمانيون عرب يشككون بما يروى في كتب التاريخ الإسلامي، ويحاولون التقليل من شأن
المنجزات الحضارية الإسلامية، والكثير من أبناء المسلمين يتأثرون بما يقال وتهتز
ثقتهم بتاريخهم فهم بحاجة لما يعزز هذه الثقة ويقضي على الشبهات.
ثالثًا تستعرض هذه الآثار قوة ومجد المسلمين الأوائل، وهذا أسلوب من أساليب
الدعوة والتأثير على غير المسلمين؛ فالعلماء قد اشترطوا لزيارة آثار الأقوام
الظالمة والكافرة أن يكون ذلك من أجل التدبر والتفكر بما حصل لهم مستدلين بقوله
تعالى: "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ"، وقوله: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين"، وليس من أجل اللهو أو التعظيم كما
جاء في نهيه صلى الله عليه وسلم عن دخول مساكن أهل الحجر "إلا أن تكونوا باكين،
فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم" كما ورد في
صحيح مسلم، وبالتالي فإن إبراز الآثار التي تدل على عظمة الإسلام والمسلمين ضرورة حتى
"يفتتن" بها غير المسلمين ويلين قلبهم لدعوة الإسلام.
ولنا مثل بما قام به سليمان عليه السلام من
استعراض ما يملك من أسباب القوة والتطور، عندما
حضرت ملكة سبأ وأدخلها على الصرح الممرد المصنوع من قوارير، فكان أحد أسباب
إسلامها ودخولها في دين الإسلام.
رابعًا الاكتشافات الأثرية تكمل الروايات التاريخية وتعطيها لونًا ومعنى وتحل بعض
الألغاز التي لم تحلها كتب التاريخ، التي لا تحوي في كثير من الأحيان على كافة
التفاصيل، فعلى سبيل المثال كلنا نعرف أن المسجد
الأقصى بشكله الحالي بني في عهد عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك، وجرت
تغييرات وصيانة له في أزمان لاحقة، لكن كيف كان شكله قبل ذلك؟ المصادر التاريخية
التي تفيدنا شحيحة جدًا، فنجد النقاش الذي دار بين عمر وكعب الأحبار حول مكان بناء
المسجد وقيام عمر بتنظيف الصخرة المشرفة، لكن كيف كان شكل المسجد؟
أحد المصادر الشحيحة هو ما ذكره أحد المؤرخون
الرومان الذي زاروا المدينة المقدسة في عهد معاوية بن سفيان أنه كان بالمدينة مسجد
خشبي يتسع لحوالي ثلاثة آلاف مصلي، ويرجح الباحثون أن المسجد المقصود هو المسجد
الأقصى.
الآن يأتي اكتشاف المسجد الأموي في طبريا
ليساعدنا بفهم كيف كان يبدو المسجد الأقصى، فحسب الاكتشافات الحديثة يوجد آثار
لأساسات مسجد أقدم من المسجد الأموي، ويعتقد أنه يعود إلى فجر الإسلام وفتح
المسلمين لطبريا، وهي تشير إلى أن المسجد كان خشبيًا أو قائمًا على جذع النخيل،
مما يعطينا فكرة (تحتاج لدراسة من مختصين لإنضاجها) وهي أنّ عند قدوم الفتح
الإسلامي بنيت المساجد الخشبية ومع استقرار المسلمين وازدياد قوتهم وثروتهم بدأوا
يبنون المساجد الحجرية العظيمة مثل المسجد الأقصى والمسجد الأموي.
كما أن وجود مدينة إسلامية مزدهرة في طبريا وكما
تفيدنا المكتشفات الأثرية في أريحا وصحراء الأردن (قصر هشام وقصر عمرة وقصر
المشتى)، بالإضافة لخربة عمران قرب البحر الميت التي كانت موطنًا لطائفة الأسينيين
قبل ألفين ومئتين عام، تشير إلى أن وادي الأردن وبادية الشام كانت مناطق ذات مناخ
أفضل من مناخها الصحراوي الحالي والذي جعلها مناطق غير مرغوبة لا يعيش فيها إلا
بعض القبائل البدوية التي تعيش على رعي الأغنام والماعز.
ولا أدري إن كانت هنالك دراسات عن التغيرات
المناخية التي طرأت على المنطقة فلست بالمختص، لكن مثل هذه الاكتشافات تساعد بمثل
هكذا دراسات، فمدينة بها مسجد يتسع لسبعة آلاف مصلي هي مدينة كبيرة.
وأخيرًا تخبرنا هذه الاكتشافات جنبًا إلى جنب مع الروايات التاريخية عن نمط معين
اتبعه الفاتحون المسلمون، وهي بناء مدن جديدة لتكون عواصم للجند، حيث بنى عمر
البصرة، وبنى عمرو بن العاص مدينة الفسطاط، وفي فلسطين كانت طبريا بلدة صغيرة
فاتخذها المسلمون عاصمة للأردن بدل بيسان، وقاموا بتوسعتها وتطويرها لتكون مدينة
كبيرة، وقام سليمان بن عبد الملك ببناء مدينة الرملة عندما كان واليًا على فلسطين
وجعلها عاصمة لفلسطين بدلًا من العاصمة القديمة اللد.
وهذا يعطينا فكرة عن التسامح لدى الفاتحين
المسلمين، فهم لم يدمروا المدن ولم يحلوا مكان سكانها بل بنوا مدنًا جديدًا ليسكن
بها جنود دولة الخلافة ولتكون مراكز إدارية، فيما تركت المدن الأصلية لسكانها
(والذين دخلوا الإسلام في أزمان وأوقات لاحقة)، ومرة أخرى لست مختصًا ولا أدري إن
أجريت أبحاث في هذا الصدد وأين وصلت أو إن كانت استنتاجاتي صائبة أم لا.
التزوير اليهودي للتاريخ
ما فعله الصهاينة في طبريا لم يكن صدفة غير
مقصودة، فتجاهل إسلامية المباني والمكان والزعم بأنه سوق روماني على مدار أكثر من
خمسين عامًا ليس بالخطأ العفوي، كما أن لهم أسبقيات بالتزوير فعلى سبيل المثال
عندما كانوا يحفرون عند السور الجنوبي للمسجد الأقصى اكتشفوا آثارًا ظنوا بأنها
آثار بيزنطية، وعندما تبين لهم أنهم اكتشفوا أربعة قصور أموية من بينها قصر
اللإمارة، اتفقوا على طمر القصور في التراب وتدميرها، ولولا أن سارع عالم الآثار
مئير بن دوف للإعلان عن هذا الاكتشاف إلى الصحافة لمرت المؤامرة ولهدمت القصور
ودفنت.
لكن الصهاينة لم ييأسوا وأصبحوا أكثر وقاحة
وصلافة، فلم يتوقفوا عن العبث بالقصور الأموية، وأخذوا أحد حجارتها ووضعوها أمام
الكنيسيت، كما يقومون بأعمال بناء حديقة توراتية فوق القصور الأموية وفي محيط
المسجد الأقصى، ويغيرون بعض حجارة جدران القدس القديمة ووضع حجارة بدلًا منها تحمل
علامات يهودية، بالإضافة لبنائهم قبورًا وهمية في منطقة الحديقة التوراتية، وأخيرًا مخطط مصادرة مقبرة باب الرحمة
الإسلامية.
وفي نابلس قاموا قبلًا بالاستيلاء على قبر يوسف
وهو مقام لأحد الأولياء يعود للعهد العثماني وزعموا أنه مقام يهودي مدفون فيه
النبي يوسف عليه السلام، فضلًا عن الإهمال المتعمد للآثار الأيوبية والمملوكية
والعثمانية والتي تملًا فلسطين من شمالها
إلى جنوبها، وتركها للتلف والخراب.
ولا ننسى استيلاؤهم على مقبرة مأمن الله
التاريخية في مدينة القدس، والتي تحوي قبور الآلاف من الصحابة والتابعين والعلماء
المسلمين، والتي كان يستخدمها المسلمون منذ الفتح الإسلامي حتى عام 1948م، وقيامهم
بتدمير أغلب القبور، ونيتهم تدمير القلة القليلة الباقية من أجل بناء ما يسمى
بمتحف "التسامح".
وبالتالي فنحن لا نعلم شيئًا عن الآثار
الإسلامية والمكتشفات التي يجدها الصهاينة في حفرياتهم تحت المسجد الأقصى، لأنه من
الواضح أن يعبثون بها بطريقة وقحة وفجة، ولا يتوانون عن تدمير أي مكتشف إسلامي
مثلما لا يتوانون عن اختلاق مكتشفات يهودية مزعومة.
في الختام
من المؤسف أنّ أهم الاكتشافات الأثرية الإسلامية
في فلسطين خلال المئة العام الماضية تمت على يد غير مسلمين (قصر هشام في أريحا)
والقصور الأموية جنوبي المسجد الأقصى، والآن المسجد الأموي في طبريا، مما يترك هذه
الاكتشافات رهنًا لضمير وأمانة المستكشفين.
وفي حين
أن الاحتلال الصهيوني يسيطر على أغلب الأرض نسأل عن المناطق التي تحت سيطرة
الفلسطينيين سواء في الضفة أم القطاع، حيث أن وزارة السياحة والآثار في الضفة هي
أقرب لوزارة سياحة تهتم بمهرجانات العنب والمشمش والتين وأكبر سدر كنافة، أما دور
وزارة السياحة والآثار في غزة فهو محدود أيضًا.
ونتساءل عن عضوية فلسطين في اليونسكو ما الفائدة
منها، وما الفائدة من المعركة التي خيضت من أجل الحصول عليها، إذا لم تستخدم من
أجل تحريك ملف تزوير الآثار الإسلامية وضرورة حمايتها من تزوير المحتل الصهيوني؟
والأهم من ذلك أين هي التحركات الإسلامية
والعربية والفلسطينية من أجل حماية التاريخ من التزوير الوقح والفج، سواء تحويل
القصور الأموية في القدس إلى حدائق توراتية أو تغيير معالم الجدار الخارجي للقدس
القديمة أو غيرها؟ البعض كان يلوم من توسط لعدم هدم تماثيل بوذا في أفغانستان
لكننا نرى اليوم كلا الطرفين (من طالب بهدم التماثيل ومن طالب بعدم هدمها) صامتين
عن ما يحصل من تزوير وهدم لمعالم إسلامية في فلسطين.
التاريخ الإسلامي في فلسطين هو جزء هام من
التراث الإنساني وقبل ذلك فهو تاريخ كل مسلم ومسلمة في العالم ومن المحزن أن نرى
عدونا يزور ويصول ويجول، بدون أي كلمة ولا حتى اهتمام ولا تألم مع لا مبالاة تامة
تعكس عدم الإدراك للخسائر التي لا تعوض على كافة الصعد السياسية والتاريخية
والثقافية والحضارية بل والدينية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق