الاثنين، 10 سبتمبر 2012

الحراك الشعبي في الضفة الغربية: الأسباب والتطورات




ويتساءل الكثيرون عن الأسباب الحقيقية لهذا الحراك، وهل هو بداية لربيع فلسطيني يطيح بسلطة محمود عباس؟ وإلى أين ستصل الأمور؟ وكيف سينعكس الحراك على الاحتلال؟ وهل سيتطور إلى انتفاضة ضد الاحتلال؟ إلى أين ستسير الأمور في ظل وضع معقد يعيشه الفلسطينيون في الضفة الغربية بين احتلال يستبيح الأرض ويتوسع بالاستيطان، وبين سلطة تعمل وكيلًا عن الاحتلال وتقوم بالعمل القذر نيابة عنه؟

فاجأت المظاهرات والاعتصامات التي اجتاحت الضفة الغربية خلال الأيام الأخيرة الكثيرين، وبالرغم من الدوافع الاقتصادية لانطلاق هذه الفعاليات الشعبية، إلا أن الطابع السياسي لم يغب منذ اليوم الأول وتتزايد مساحته مع توسع نطاق المظاهرات والحراك الشعبي.


اتفاقية باريس الاقتصادية:

الشرارة التي فجرت الحراك كانت قرار رفع أسعار المحروقات في 1/9، وزيادة قيمة ضريبة القيمة المضافة (أو ضريبة المشتريات كما تسمى في بعض البلدان) بنسبة 1%، وحتى نكون في صورة الوضع فقرار رفع المحروقات والقيمة المضافة جاء من حكومة الاحتلال، والسلطة لا تملك إلا الالتزام بالرفع، حيث أنه وحسب اتفاقية باريس الاقتصادية (التوأم الشرير لاتفاقية أوسلو) ترتبط السلطة والكيان الصهيوني في اتحاد جمركي، أي أن نفس القوانين الاقتصادية تنطبق في الجانبين مع إعطاء مجال بسيط للسلطة لكي تتحرك فيه، مثل السماح لها بتخفيض سعر البنزين بنسبة لا تزيد عن 15% من السعر الذي يحدده الاحتلال، أو تخفيض ضريبة القيمة المضافة بنسبة لا تزيد عن 2% من القيمة التي يحددها الاحتلال، ومرونة بتحديد قيمة الجمارك على عدد محدود من السلع المستوردة.

وعندما نقول التوأم الشرير لاتفاقية أوسلو، فمن الضروري التأكيد على أن كليهما سيء وشرير، لكن اتفاقية أوسلو تمنح الأمل (وإن كان كاذبًا) بوصول الفلسطينيين إلى دولة (لكن ليس تحرير كل فلسطين)؛ إلا أن اتفاقية باريس عمليًا تجعل الاقتصاد الفلسطيني ملحقًا باقتصاد الاحتلال، بل يجعله يعيش على فضلات الاحتلال.

حسب اتفاقية باريس أي شيء يستورد إلى المناطق الفلسطينية (الضفة والقطاع) يجب أن يمر من خلال معابر الاحتلال، وأن يخضع للفحص الأمني (الذي يستغرق شهر واحد على الأقل)، ويدفع التاجر الضريبة للصهاينة (القيمة المضافة والجمارك) وبعدها يقوم الصهاينة بتسليم الضريبة المحصلة للسلطة (بعد أخذ عمولة تحصيل 2%)، واستخدم الصهاينة كل هذه الإجراءات من أجل خنق الاقتصاد الفلسطيني وإبقائه متخلفًا يعيش على فضلات الاحتلال، فعلى سبيل المثال بند الفحص الأمني وحده يرفع تكلفة الاستيراد (لأن التاجر عليه أن يدفع إيجار الميناء طوال فترة الفحص الأمني)، ويستخدم على نطاق واسع من أجل منع استيراد معدات صناعية أو تكنولوجية أو كيماوية متطورة يمكن أن ترتقي بواقع الاقتصاد الفلسطيني.

وما ينطبق على الاستيراد ينطبق أيضًا على التصدير، وكل هذا يقيد إمكانية  الاستقلال الاقتصادي الفلسطيني، وفق مبدأ أن من يأخذ لقمة عيشه من عدوه لا يستطيع محاربته وسيبقى خاضعًا له ولابتزازه، ولهذا هندس الصهاينة اتفاقية باريس بهذا الشكل الشرير والخبيث، بحيث يجعل إمكانية بناء اقتصاد فلسطيني وامتلاك قرارًا وطنيًا خاليًا من الضغوط أمرًا مستحيلًا.

ومما زاد الأمور سوءًا هو التفاوت الكبير في الدخل بين الفلسطيني (1500 دولار سنويًا للفرد) والمستوطن الصهيوني (30 ألف دولار سنويًا للفرد)، في حين أن كليهما مطلوب منه دفع نفس الضرائب على المحروقات (حوالي 3 أرباع ثمن المحروقات هو عبارة عن ضرائب)، ونفس ضريبة القيمة المضافة، وفوق ذلك يتلقى خدمات أقل.

مقدمات مهدت للحراك:

وقد سبق ذلك تحركات شعبية ونقابية وسياسية خلال العامين الماضيين من أجل تحقيق مطالب مختلفة، مثل وقف الاعتقال السياسي ووقف الفصل من الوظيفة على أساس سياسي ووقف قانون ضريبة الدخل الجديد (والذي لا يخضع لاتفاقية باريس)، وقد حققت التحركات نجاحًا متفاوتًا، بل حقق الحراك من أجل منع لقاء عباس – موفاز قفزة نوعية عندما استطاع فرض قرارات شعبية للمرة الأولى على السلطة فيما يتعلق بملف التفاوض مع الاحتلال الصهيوني، فكانت كل هذه المقدمات مشجعًا للقوى الاجتماعية والسياسية بأنها قادرة على انتزاع حقوقها من خلال النزول إلى الشارع.

وحاول سلام فياض خلال السنوات الخمس الماضية بناء دولة فلسطينية تحت الاحتلال، متجاهلًا أبسط أسس الدولة المستقلة، وهي الاستقلال الاقتصادي والسياسي والأمني، فكلها كانت تدور في فلك الإملاءات الصهيونية، ومع وصول المفاوضات مع الاحتلال إلى طريق مسدود منذ عامين أو ثلاث، ومع القضاء على كافة أشكال المقاومة في الضفة الغربية، وصل الناس (بما فيهم مؤيدو حركة فتح) إلى أن مشروع أوسلو ومشروع بناء الدولة تحت الاحتلال، قد فشل بشكل مطلق ولم يعد هنالك ذرة أمل بنجاحه.

في ظل الحديث الدائم للسلطة عن الأزمة المالية، وسعيها لإيجاد موارد مالية من داخل المجتمع الفلسطيني، وفي ظل ارتهان القرار السياسي والاقتصادي للاحتلال الصهيوني، كان هنالك تراكمات داخل المجتمع الفلسطيني وصلت حدها الأقصى مع قرار رفع سعر المحروقات (إلى ما يساوي دولارين لليتر البنزين) وضريبة القيمة المضافة (بنسبة 1%)، فالناس يدفعون ضرائب ولا يرون خدمات، ولا يرون مشروعًا سياسيًا ولا مشروعًا تحرريًا، ولا يرون ازدهارًا اقتصاديًا.

صحيح أن الوضع الاقتصادي لم يتدهور بشكل كبير (مقارنة مع قبل عام على سبيل المثال)، لكن الناس أصبحت أكثر وعيًا بحقوقها، وأصبحت أكثر اقتناعًا بقدرتها على تحصيل حقوقها، وهذا هو المحرك الأساسي لهذا الحراك، وبما أن القرار بخصوص هذه الضرائب ليس بيد السلطة، فهي لا تستطيع إلغاءه (طبعًا ومستفيدة منه)، فالأمور أصبحت على المحك.

تطور الأحداث:

بدأت التحركات نقابية من خلال نقابة سائقي السيارات العمومية  واتحادات المقاولين وأصحاب المحاجر وهم المتضررين المباشرين من هذه القرارات، وبالرغم من أنهم ليسوا جهة سياسية إلا أن لديهم قدرة كبيرة على الحشد، وفي ظل غضب متنامي داخل الشارع نالوا تعاطفًا جماهيريًا مع خطواتهم الأولى المتمثلة بإغلاق الشوارع ومفترقات الطرق وتنفيذهم اعتصامات متعددة.

كما رافقهم تحركات لقوى سياسية شبابية أخذت زخمًا يزداد يومًا بعد يوم، مع وجود شبه إجماع بين القوى السياسية (حماس واليسار وغالبية القاعدة الشعبية لفتح) على دعم هذه التحركات والمشاركة فيه.

والملاحظ أن الحراك يتوسع وتنضم له شرائح جديدة، مثل نقابة المعلمين، بالإضافة للمظاهرات الليلية وإغلاق الطرقات بالإطارات المحترقة وهي تحركات عفوية يقف وراءها شباب أغلبهم دون العشرين عامًا، وإن كان للكثير منهم انتماءات سياسية إلا أنهم يتحركون بشكل ذاتي، ولا يلتزمون ببرامج نقابية أو سياسية ولا يتقيدون بحدود ولا يمكن إعادتهم إلى بيوتهم بسهولة، وهذا مؤشر على أن الأمور تتجه نحو التصعيد.

ويبدو التجاوب المتزايد مع الحراك الشعبي، والاتجاه نحو العصيان المدني، يشجع المزيد من الفئات للانضمام لهذا الحراك، مما سيزيد من زخمه وقوته واندفاعه، كما أن الاستهتار الذي تتعامل به السلطة مع المظاهرات واعتبارها بأنها مجرد موجة وستنتهي، و"لندعهم يتظاهروا كما يريدون وسنعمل ما نريد"، لا يساعد مطلقًا على حل المشكلة.

وإن كان يبدو في الظاهر أن سلام فياض هو كبش الفداء للحراك الشعبي، إلا أن الشعارات والهتافات تشير وبقوة إلى إسقاط اتفاقية باريس (وبعضها يتكلم عن أوسلو أيضًا)، وإسقاط التنسيق الأمني، وإسقاط عباس، وبدلًا من أن يخاطب فياض وعباس الناس بشكل يطرح حلولًا عملية، حرصا على تبرير السياسة القائمة وأنه ليس بالإمكان أحسن مما كان.

وماذا بعد؟

والسؤال الجوهري الذي يدور في أذهان الكثيرين هو إلى أين تسير الأمور، وإلى أين ممكن أن تحط رحال الحراك الشعبي، ولن نحصل على إجابة شافية لهذا السؤال، لكن سنحاول فهم الاحتمالات المختلفة.

أولًا، استجابة عباس لطلب إقالة فياض، لن يحل المشكلة لأن خليفة فياض مطالب بإلغاء قرارات الرفع، وبالعكس فإقالته ستشجع الناس على مواصلة الحراك من أجل الوصول لما يريدون.

ثانيًا، السلطة وفق سياستها التي تلزم نفسها بسقف أوسلو وما يطرحه الاحتلال من فتات، لن تقدم على مواجهة مع الاحتلال من أجل الفكاك من العبودية الاقتصادية التي تكرسها اتفاقية باريس.

ثالثًا، الاحتلال أمامه خيارين: إما إلغاء قرارات الرفع من أجل حل أزمة السلطة، وهذا مستبعد بحكم التعجرف الصهيوني الذي ينظر للفلسطينيين على أنهم كائنات دون بشرية، وإما الموافقة على طلب السلطة بإعادة التفاوض على اتفاقية باريس، وهذا مستبعد بشكل أكبر، وإن حصل فالتعديلات ستكون شكلية، لأنه لو كسرت الاتفاقية فمعناه أن الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية أصبح مهددًا بالزوال، وسيتشجع الفلسطينيون لتقديم المزيد من الطلبات.

وبهذا أحكم بعدم جدية طلب السلطة الذي قدمه حسين الشيخ من أجل مراجعة اتفاقية باريس، فمثل هذه المراجعة لا تتم من خلال قيادات تنفيذية من الدرجة الثانية والثالثة في السلطة، بل هذا قرار سياسي يجب اتخاذه على أعلى مستوى ويجب خوض مواجهة سياسية وشعبية ودبلوماسية وضغوط دولية من أجل الوصول إلى مرحلة إعادة التفاوض على الاتفاقية، بل وقد يحتاج الأمر لحرب (وليس مجرد مقاومة مسلحة).

رابعًا، في حال استمر الحراك الجماهيري لأسبوع أو أسبوعين آخرين، فسنكون وصلنا لمرحلة اللاعودة، بمعنى أن الناس لن تعود لبيوتها قبل تحقيق منجزات حقيقية وملموسة، والسؤال إلى أين سيوجه الغضب الشعبي وقتها؟

خامسًا، ماذا لو استقال عباس أو فياض، هل سيسكت الصهاينة؟ وهل سيتوجه الغضب الجماهيري نحو الاحتلال؟ هذه كلها أمور ما زال من الصعب التكهن بها، لكن من الأكيد أن ما يحرك الناس هو الرغبة بالتحرر من الاحتلال، وإن كانت الأمور تبدو للوهلة الأولى أنها عن مطالب اقتصادية، وهذه الرغبة التحررية ستكون البوصلة التي ستقود الأحداث بكل تأكيد.

في الختام:

لا يدرك الاحتلال أو السلطة الخطر الذي يتهددهم من الحراك الشعبي، ويظنون أنها موجة وستزول (وهو احتمال قائم لكنه يتضاءل مع مرور الوقت)، وما لا يدركه الكثيرون أنّ حركة فتح تتمتع بالمرونة والبراغماتية الكافية لأن يخرج أبناؤها في تظاهرات ضد السلطة والقيادات التي تمثلها، ولو تطلب الأمر سينقلبوا عليهم، وهذه المرونة هي ما أبقت فتح بهذه القوة طوال السنوات الماضية، فهي تحسن استغلال الفرص وتحسن ركوب موجة الجماهير.

وفي حال اتفقت فتح وحماس على الهدف (وفي هذه الحالة إسقاط اتفاقية باريس وسلام فياض)، فهذا يعني حالة إجماع شعبية، وخاصة أن الطرفين كانا على طرفي نقيض طوال السنوات السبع الماضية.

ما يحصل في الضفة الغربية هو صيرورة طبيعية، فالسلطة تحولت من مشروع دولة مستقلة إلى كيس رمل يتلقى الضربات نيابة عن الاحتلال، وهذا ما لاحظناه خلال السنوات الماضية حيث نسي المجتمع السياسي الاحتلال وانشغلوا باتهام السلطة تارة وحماس تارة أخرى، والناس لا تريد هكذا سلطة، وتريد إعادة الأمور إلى نصابها الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وحركة فتح (العامود الفقري للسلطة) بحسها البراغماتي والعملي وصلت لقناعة أن السلطة مشروع فاشل وبات من الضروري التخلي عنه لأنه أصبح عبئًا عليها، وهذه قناعة القاعدة الفتحاوية وليست قناعة القابعين في المقاطعة.

ليست هناك تعليقات: