أثارت لافتات علقتها مجموعة مغمورة في عدة مناطق بالضفة الغربية ضجة كبيرة، حيث دعت إلى قيام دولة واحدة يعيش فيها "6 ملايين يهودي إلى جانب 5 ملايين عربي"، وقام العشرات من الشباب بكافة المدن بتمزيق اللافتات والإعلانات العملاقة رفضًا للإيحاءات التي حملتها هذه اللافتات.
فصياغة العبارات أعطت إيحاءات لم تخفَ عن أعين الفلسطينيين،
وهو أن الدولة المنتظرة ستبقى يهودية الطابع (حيث أن أغلبيتها سيكونون من اليهود)،
ويبدو أنها رسالة طمأنة من القائمين على الحملة للصهاينة لكي يقبلوا الفكرة، لكنها
استفزت الفلسطينيين بكل تأكيد فيما لم تصل الصهاينة.
والعبارة تحمل من المغالطات الكثير؛ فهي لا تشير
لخمسة ملايين لاجئ فلسطيني يعيشون في الشتات ولا لحقهم في العودة لبلدهم، كما أنها
تزيد من نسبة اليهود (فعددهم الحقيقي لا يتجاوز 5.5 مليون يهودي) وتقلل من نسبة
الفلسطينيين (والذين تسميهم بالعرب وهي التسمية التي يطلقها الصهاينة إنكارًا منهم
لوجود الشعب الفلسطيني) حيث أنهم تجاوزوا 5.25 مليون يعيشون داخل فلسطين التاريخية
(الضفة والقطاع وفلسطين المحتلة عام 1948م).
وبعيدًا عن هذه المجموعة والتي يترأسها مطبع
مغمور يسعى للشهرة (ويدعى ياسر المصري)، نريد مناقشة فكرة الدولة الواحدة، ما
تعنيه؟ وكيف سيكون شكلها؟ وهل من الممكن أن تكون حلاً أم أنها مشكلة بحد ذاتها؟
ومن يتبنى هذه الفكرة؟
نبذة تاريخية:
فكرة الدولة الواحدة تطورت منذ بدء الاحتلال
البريطاني لفلسطين بدايات القرن الماضي، حيث كان الصهاينة والبريطانيون يريدون
إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وسط معارضة فلسطينية وعربية.
وكان اليمين الصهيوني يطالب بدولة واحدة لليهود
(وطرد العرب منها) تمتد شرقًا عبر نهر الأردن ولا تكتفي بفلسطين، فيما كان التيار
الرئيسي في الحركة الصهيونية والاحتلال البريطاني أكثر واقعية.
وطرحت في الأمم المتحدة مشروع قرار لتقسيم
فلسطين إلى دولتين: واحدة لليهود والثانية للفلسطينيين، والحركة الصهيونية لم تعلن
معارضتها أو موافقتها على قرار التقسيم، وفضلت أن تأخذ ما يخصها وحدها أي الدولة
اليهودية، وفي المقابل عارض الفلسطينيون والعرب قيام الدولتين وطالبوا بقيام دولة
واحدة حيث كانوا يراهنون على بقاء طابعها العربي بحكم أن اليهود لم يشكلوا أكثر من
ثلث السكان (قبل حرب عام 1948م).
بعد الحرب سعى الصهاينة للتوسع وتعزيز حدود
كيانهم الوليد، فيما العرب كانوا يتأملون تحرير فلسطين والقضاء على المشروع
الصهيوني.
عادت فكرة الدولة الواحدة مع المد اليساري أواخر
الستينات وأوائل السبعينات، وكان أبرز من تبناها الجبهة الديموقراطية لتحرير
فلسطين، وكان هنالك التقاء مع اليسار الشيوعي (غير الصهيوني) داخل الكيان حول صيغة
دولة واحدة للفلسطينيين واليهود، حيث كانوا يرون في العلمانية حلاً لمشكلة هوية
الدولة الواحدة.
طبعًا لا الحركة الصهيونية تقبل بدولة واحدة
مالم تكن يهودية الطابع، ولا أغلب الفلسطينيين يقبلون بدولة لا تحمل هويتهم
العربية الإسلامية، وبقيت هذه الفكرة تدور في دوائر ماركسية نخبوية ضيقة، ولم تلق
صدى جديًا لدى أي أطراف عربية أو صهيونية.
ومنذ بداية الثمانينات بدأت منظمة التحرير وحركة
فتح بالبحث عن حلول سياسية على قاعدة برنامج النقاط العشر التي أقرتها المنظمة في
بداية السبعينات، والتي تكلمت في البداية عن إقامة دولة فلسطينية على أي جزء يتم
تحريره من فلسطين، ثم أصبحت تتسول دولة ضمن إطار تسوية سلمية مع الكيان الصهيوني.
وجاءت اتفاقية أوسلو لتكرس مفهوم "حل
الدولتين"، بما أنه لا يمكن للصهاينة القضاء على الشعب الفلسطيني وبما أنه لا
يمكن للفلسطينيين القضاء على الكيان الصهيوني، حسبما كان يردد أنصار التسوية
السلمية.
وجاءت حركة حماس بعدها لتعيد طرح فكرة إقامة
دولة فلسطينية على أي جزء يتم تحريره بمعنى: نقيم دولة على الضفة والقطاع تكون
منطلقًا لتحرير باقي فلسطين.
لكن لا المنظمة استطاعت أن تقيم دولتها التي
تقيم بسلام إلى جانب "دولة إسرائيل"، ولا حماس استطاعت أن تقيم دولتها
المرحلية، بالرغم من أن الطرفين اتفقا على قبول هذه الدولة وكل حسب مفهومه لها،
وذلك لسبب بسيط وهو أن الصهاينة يرفضون الدولة الفلسطينية حتى ضمن صيغة منظمة
التحرير السلمية لأنهم يدركون أنها ستتطور آجلاً أم عاجلًا لدولة حسب المفهوم
الحمساوي (محطة لتحرير باقي فلسطين).
ومرورًا بانتفاضة الأقصى بقيت فكرة الدولتين
مجرد مادة للثرثرة حول مائدة المفاوضات؛ سواء كانت مفاوضات فلسطينية صهيونية، أو
فلسطينية فلسطينية، وعلى الأرض لم يتغير الكثير وحتى عندما انسحب الصهاينة من غزة
فإنهم حرصوا على بقاء الحصار على القطاع وإبقاء لهم حق التدخل فيه.
وفي ظل انسداد المفاوضات بين السلطة والاحتلال
طرح أحمد قريع عام 2008م كتهديد للصهاينة فكرة الدولة الواحدة "للشعبين"،
حيث أنه بما أن الصهاينة يريدون دولة يهودية فسنهددهم بدولة واحدة يوجد فيها نسبة
كبيرة من الفلسطينيين (النصف تقريبًا) أو يعطونا الدولة الفلسطينية، طبعًا السلطة
لم تملك آلية لاقناع الاحتلال بأن هذا التهديد جدي أو قابل للتطبيق، فماتت الفكرة
ويبدو أن اللافتات التي علقت مؤخرًا هي امتداد لهذه المحاولات البائسة.
ما هي مشكلة الدولة
الواحدة:
ولا ننسى الفكرة التي طرحها القذافي بقيام دولة
موحدة للفلسطينيين واليهود تحت مسمى إسراطين (والتي تأتي من دمج كلمتي إسرائيل
وفلسطين)، والتسمية التي اقترحها القذافي تبرز المعضلة الأساسية في فكرة الدولة
الواحدة: ما هي هوية هذه الدولة؟ هل هي عربية إسلامية أم يهودية غربية؟ أم علمانية
لا دينية؟ طبعًا الهوية الهجينة كالتي اقترحها القذافي لم تنل أكثر من السخرية
والاستهزاء.
فلا مشكلة لدينا كفلسطينيين أن يعيش اليهود داخل
دولة فلسطينية، لكن بشرط أن تكون دولة فلسطينية عربية إسلامية الهوية، وهذا ما حصل
تاريخيًا حيث عاش اليهود في فلسطين ضمن النسيج الاجتماعي العربي الإسلامي، بمن
فيهم الذين كانوا يأتون من أوروبا الغربية ويسكنون القدس، حيث نجد في سجلات المحاكم
الشرعية بالعهد العثماني معاملات لهم بوصفهم مقيمين في القدس وكانوا يسمون بطائفة
السكناج.
كما استقبلت الدولة العثمانية أغلب يهود الأندلس
(السفارديم) الذين قدموا لاجئين، واستقروا في شمال أفريقيا وبلاد الشام وتركيا،
إلا أنه في الوضع الحالي كيف يمكن أن تكون دولة فلسطينية ذات هوية عربية إسلامية، ونصف
سكانها تقريبًا من اليهود؟
ولو راجعنا تاريخ الحركات الاستعمارية سنجد
نماذج قريبة في بعض النواحي لعلها تعطينا فكرة عن حلول مستقبلية: هنالك الحركة
الاستعمارية في القارة الأمريكية حيث نجح المستوطنون البيض بإبادة السكان الأصليين
والحلول مكانهم، وخاصة في النصف الشمالي للقارة، وهذا ما لم يحصل في فلسطين مما
يجعل المشروع الصهيوني مهددًا وبشكل كبير.
في الجزائر وبعد انتصار الثورة الجزائرية أعلنت
جبهة التحرير أنها ستقبل بالمستوطنين الفرنسيين كمواطنين جزائريين، وبحكم أنهم
كانوا أقل من 10% من السكان لم يكن ذلك ليهدد هويتها العربية الإسلامية، إلا أن
المستوطنين أراحوا الجزائريين وقرروا "الحرد" والعودة لفرنسا مصطحبين
معهم يهود الجزائر وعملاء الاستعمار المعروفين بالحركيين.
في جنوب أفريقيا وفي زيمبابوي (روديسيا الجنوبية
سابقًا) بعد انتصار الحركة الوطنية، تم قبول المستوطنين البيض كجزء من الدولة
وأغلبهم بقوا في هذين البلدين، إلا أن نسبتهم بقيت أقلية (1% في زيمبابوي و20% في
جنوب أفريقيا)، وبحكم أن الأغلبية الأفريقية في البلدين تبنت العقيدة المسيحية وثقافة
هجينة "أفريقية – غربية"، فلم يكن هنالك مشكلة باندماج المستوطنين
السابقين في منظومة الدولة الناشئة.
في فلسطين تبقى مشكلة الهوية ومشكلة نسبة اليهود
التي تهدد الهوية، وطبعًا تبقى مشكلة قبول اليهود بدولة واحدة، فهم يرفضون أي دولة
ما لم تكن يهودية الطابع، فما بالكم بأن تكون دولة عربية إسلامية الطابع؟
متى يمكن أن يكون حل
الدولة الواحدة ممكنًا:
يمكن أن يقبل اليهود بهكذا حل في حال انكسر ظهر
جيش الاحتلال في حرب (أو عدة حروب متتالية)، بحيث يقبلون به كحل يحفظ ماء وجههم،
وعندها يمكن أن نتوقع أن يهاجر قسم كبير من اليهود من فلسطين كالآتي: هنالك حوالي
مليون يهودي من الاتحاد السوفياتي السابق وأغلبهم يعتبرون الكيان الصهيوني مجرد
محطة في طريق هجرتهم إلى أمريكا والغرب، وسيكونون أول المهاجرين في هذه الحالة.
لكن مقابلهم هنالك حوالي 2.5 مليون من يهود
الدول العربية، الذين سيقولون إن عدنا إلى بلداننا الأصلية سيحكمنا العرب،
وبالتالي فالأفضل أن نبقى هنا (أي داخل فلسطين)، ما دام العرب سيحكمونا في كل
الأحوال. بالإضافة لحوالي مليون من اليهود المتدينين (من كافة الخلفيات العرقية)
أو ما يعرفون بالحريديم، سيفضلون البقاء قريبًا من القدس حتى لو تحت حكم عربي.
بمعنى آخر من بين 5.5 مليون يهودي (موجودون
اليوم) في حال قيام دولة فلسطينية على كامل أرض فلسطين فسيهاجر حوالي مليونين،
وسيبقى 3.5 مليون مقابل 10 ملايين فلسطيني (بحكم عودة اللاجئين).
مثل هذه الدولة الواحدة ستكون مقبولة في حال
وصلنا إليها، وهي تختلف عن الدولة الواحدة العلمانية التي دعا إليها اليسار، كما
تختلف عن الدولة الواحدة التي يعيش فيها الفلسطيني كمواطن درجة ثانية كما يدعو لها
أحمد قريع وياسر المصري.
لكن حتى نصل لمثل هذه الدولة هنالك مراحل كثيرة
يجب قطعها، وكلمة السر هي كسر ظهر جيش الاحتلال، وليس مجرد مناكفته أو إقامة توازن
استراتيجي معه.
هناك تعليقان (2):
السلام عليكم
معذرة أخي الكريم هل تصفح موقع شبكة فلسطين بطيئ عند الكل أم عندنا نحن فقط ولماذا ما حطيتم رابط مثل المرات السابقة حين كانت تتعرض لهجوم ممكن منه أن ندخل للشبكة لأنه يتعذّر علينا دخولها هل هناك خلل فيها أم من جديد هي تتعرض لهجوم..
وأنا أعتذر كوني أحدثكم عن الشبكة من مدونتك لأنني حقا ما عندي من أسأل
بارك الله فيكم وأعتذر مرة أخرى
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
اخي الكريم الشبكة تتعرض لهجمة الكترونية من أشرس ما يكون منذ حوالي اسبوع.
وهذا يؤثر على قدرة الكثيرين من دخولها، حاول الدخول باوقات مختلفة، أو استخدام البروكسي.
اما الرابط الرقمي فغير متوفر لأسباب أمن الموقع وحمايته من الهجمات.
كما يمكنك المتابعة من خلال صفحة الشبكة على الفيسبوك
http://www.facebook.com/paldf
إرسال تعليق