بعد نضال طويل تمكنت حركة فتح من إقناع محمود
عباس بإزاحة رجل أمريكا القوي سلام فياض، والإتيان ببديل فتحاوي عنه، حيث كانت هذه
عقدة الحركة طوال السنوات الستة الماضية، خاصة وأن فياض عمل على محاصرتها داخل
الوزارات وقصقصة أجنحتها.
ومثلما تم تقديم سلام فياض كشخصية مستقلة مهنية
في بدايته، يتم تقديم رامي الحمد الله بنفس الطريقة تقريبًا، وكأن مشكلة السلطة هي
مشكلة إدارة مؤسسات، وليست مشكلة سياسية معقدة وغرق في وحل علاقات أمنية وتبعية
غاية في التعقيد مع الاحتلال الصهيوني.
من تجربته كرئيس جامعة النجاح يظهر الحمد الله
ميلًا قويًا لأن يكون أداة طيعة في يد حركة فتح والسلطة، حيث فتح أبواب الجامعة
وشرعها أمام تدخل الأجهزة الأمنية الفج بالحياة الطلابية والتضييق على مؤيدي حركة
حماس، بشكل قد فاق أي جامعة أخرى في الضفة الغربية.
ومن الضروري التأكيد على أنه لا معنى لكلمة رئيس
وزراء مستقل، وخاصة في الواقع الفلسطيني، لأنه لن يستطيع أن يدير شؤون السلطة
والوزارات بقوته الذاتية أو بشخصيته "الجذابة" أو المقنعة لوحدها، بل
يحتاج لقوة ما تدعم قراراته وتجبر الآخرين على الالتزام بها، وإلا سيقع في صدام مع
القوى الداخلية (مراكز القوة داخل الوزارات ومؤسسات السلطة) والخارجية (الاحتلال
الصهيوني وأمريكا)، وعند الصدام سيحتاج لدعم جهة ما وإلا فسيجد نفسه مهمشًا أو
مقصيًا أو "مطفشًا".
لقد كان سلام فياض مستقلًا لكن كان يستمد القوة
من أمريكا، وكان يضرب بسوط أمريكا، وهكذا كانت فتح مجبورة على سماع كلامه، واضطرت
للخضوع لإجراءاته في تقليص الفساد الفتحاوي داخل مؤسسات السلطة (مع أنه هو نفسه
أسس لزبائنية وفساد خاص بمؤيديه لكن على مستوى أقل من الفساد الفتحاوي).
ولا يمكن اعتبار قرار قبول استقالة الأخير
انتصارًا للخط الفتحاوي الوطني على الخط الأمريكي، نظرًا إلى أن الخلاف لم يكن
أصلًا على القضايا السياسية بل كان صراع نفوذ ومواقع داخل السلطة، وهذا ما تفهمته
أمريكا والكيان الصهيوني، وهذا ما دفعهم للترحيب بتعيين رامي الحمد الله.
وهنا لا بد من الإشارة إلى كون السياسي
"مستقلًا" يجعله عرضة للضغوط الخارجية، ويجعله عرضة للاستدراج الصهيوني،
خاصة وأن الصهاينة يتقنون لعبة "فرق تسد"، واستدراج الساسة نحو مستنقع
التطبيع والعمالة المقنعة، من بوابة السلام الاقتصادي و"بدنا نعيش"،
ونريد تسليك أمور الناس الحياتية.
هكذا تحول سلام فياض من شخصية مهنية اقتصادية
إلى عراب للتنسيق الأمني ومشرعن للاحتلال الصهيوني، وقد ساعد على ذلك قلة خبرته
بالعمل السياسي ففي أحد اللقاءات مثلًا مع صحيفة هآرتس الصهيونية قال أنه يطلب رفع
الحواجز التي لا تخدم أمن الاحتلال في الضفة الغربية، وسيوافق على كل حاجز له
"هدف أمني" كما قال، مشرعنًا بذلك وجود الاحتلال ووجود المستوطنات (لأن
حمايتها تحتاج لحواجز أمنية)، فيمَ ظاهر كلامه أنه يريد رفع قسم من الحواجز، وظاهر
كلامه أنه يريد التخفيف عن المواطن الفلسطيني.
وهذا ما نراه في ظاهرة منيب المصري، رجل الأعمال
الذي جمع خارج فلسطين ثروة تقدر بمئات ملايين الدولارات، وبدأ في آخر عمره يطمح
نحو دور سياسي فحاول مرة من خلال التوسط بين فتح وحماس، والآن يلعب دور المطبع
الاقتصادي مع الاحتلال وصاحب مبادرات تطبيعية مثل الاجتماع مع المستوطن المتطرف
رامي ليفي، وغيرها من المبادرات التطبيعية التي كانت تؤدي في السابق بحياة صاحبها.
فقلة خبرة المستقلين المهنيين الطارئين على
السياسة مثل فياض ومنيب المصري ورامي الحمد الله ورئيس صندوق الاستثمار محمد مصطفى
(الذي يسوق على أنه مرشح محتمل لمناصب سياسية قيادية)، تساهم بضعف أدائهم السياسي
أمام المحتل الصهيوني، وتجعلهم فريسة لضغوطه، خاصة وأن العمل السياسي الفلسطيني له
ثمن، وقول "لا" للمحتل قد تكلف صاحبها حياته أو على الأقل تعرضه للسجن
والتنكيل والحصار، وهؤلاء ليسوا من الصنف المهيأ لمثل هذه المواجهة.
إذن نحن أمام رئيس وزراء جديد لا خلفية سياسية ولا
نضالية له، وهو معرض لضغوط المحتل، وكونه من خلفية فتحاوية سيجعله فيما يبدو
يستعين بقوة محمود عباس وحركة فتح في قراراته، لكن القوة المتنفذة داخل فتح ليست
مستعدة للمواجهة مع الاحتلال، وبالتالي ففي أحسن الأحوال سنراه منفذًا أمينًا
لسياسة محمود عباس وموظف بدرجة رئيس وزراء لديه.
فنحن أمام تكرار نفس الأخطاء: تعيين شخصيات
مهنية بدون رغبة لدى القوة النافذة داخل السلطة (أي حركة فتح) بأي تغيير لا على
صعيد إدارة السلطة ولا الصعيد الخارجي، وإيهام الناس بأن فلان المستقل هو أفضل من
الحزبيين، وترك القضية الفلسطينية بيد مجموعة من أصحاب المصالح الضيقة الذين لا
يوجد لديهم أدنى استعداد للمخاطرة بها، وترك الأمر بيد الاحتلال ليكمل مسيرة
التلاعب بقادة السلطة واستخدامهم أداة لتمرير سياسته التهويدية والتوسعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق