يبدو أن طوفان المحاسبة لم يستثن أحد ولم يعد
أحد في مأمن من المحاسبة، ونتكلم عن المحاسبة في الدنيا بكل تأكيد لأننا جميعنا
سنحاسب في اليوم الآخر، وإن كان الحساب في اليوم الآخر لا يردع البعض فالحساب في
الدنيا سيردعهم أو كما قال الحق عز وجل في بني إسرائيل: "لأنتم أشد رهبة في صدورهم
من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون" – آية 13 سورة الحشر.
ففي الأسبوع الماضي بدأت محاكمة الجنرال كنعان
إيفرن الذي قاد الانقلاب على الحكومة التركية عام 1980م والذي أصبح بعد ذلك رئيسًا
لتركيا وحكمها بالحديد والنار، وسجن في عهده عشرات الآلاف ومات العشرات تحت
التعذيب في سجونه، واللافت في محاكمته أنها جاءت بعد أكثر من 28 عامًا من تسليمه
الحكم إلى المدنيين وتنازله عن منصب الرئاسة، واللافت أيضًا هو عمره الذي يقارب
الـ94 عامًا ومرضه الشديد الذي منعه من حضور المحكمة.
ومن بين قادة انقلاب 1980م الخمسة لن يحاكم سوى
إيفرن وتحسين شاهين كايا، فالقادة الثلاثة الآخرون توفوا، ومن اللافت أيضًا أنه
ليس متهم بالاختلاس والسرقة ولا بناء القصور الفارهة، هو متهم بقيادة انقلاب عسكري
وسجن وتعذيب وانتهاك آدمية عشرات الآلاف.
كانت حجته ومبرره هو الاقتتال بين اليمين
واليسار الذي هدد استقرار تركيا في حينه، وربما كان صادقًا والدليل أنه سلم السلطة
بعد أربعة أعوام إلى حكومة منتخبة مدنية، وبالمثل يخضع الجنرال شفيق بير لعملية
المساءلة والمحاكمة واعتقل قبل أيام قليلة، بسبب دوره في انقلاب عام 1997م.
وانقلاب عام 1997م ليس انقلابًا بالمعنى
المعروف، وإنما كان مجرد تهديد من قبل قادة الجيش إلى رئيس الوزراء نجم الدين
أربكان وتخييره بين الاستقالة والإقالة، فاختار طريق الاستقالة حقنًا للدماء،
وبعدها نظمت انتخابات جديدة جاءت بالعلمانيين كما كان يهوى العسكر يومها.
سواء في انقلاب 1980م أو 1997م كانت المصلحة
الذاتية للانقلابيين بعيدة (أو على الأقل هكذا تبدو الأمور) وتصرفوا وفق قناعاتهم
ومبادئهم (حتى وإن كنا نرفضها)، لكنهم أخطأوا وارتكبوا أخطاء وخطايا، وبالتالي
استحقوا الحساب.
وإذا كان القانون التركي يحميهم سابقًا من أي
مساءلة فالتعديلات الأخيرة في الدستور التركي والقانون التركي مهدت لمحاكمتهم،
وهنا نأتي إلى العبرة من مثول تسعيني للمحاكمة على جرائم ارتكبت قبل 30 عامًا:
1-
لا توجد حصانة لأحد، وكل مسؤول معرض للمساءلة ولو بعد 30 عامًا، ولو بلغ من
العمر عتيًا.
2-
أن الطريق إلى ارتكاب الجرائم مفروشة بحسن النوايا، وليس كل طاغية أو ظالم
يكون صاحب مآرب شخصية، الكثير يجرفهم الحماس لقضية ما يؤمنون بها ويحطمون كل
المحاذير الأخلاقية والمبدئية من أجل هذه القضية، وإن أصبحوا رقم واحد في هرم
السلطة فوقتها (الله يستر).
3-
عانت أوروبا في القرون الوسطى من تدخل رجال الدين في السياسة، ولم تنهض
أوروبا إلا بعد إعادة رجال الدين إلى الكنائس، بينما في عالمنا الإسلامي عانينا في
القرن الأخير من تدخل العسكر في السياسة.
4-
في انقلاب عام 1997م لم تسل قطرة دماء واحدة، وكل ما حصل أنه تم تهديد رئيس
الوزراء لكي يستقيل، وتقديم الانقلابي شفيق بير للمحاكمة بسبب هذا الفعل، يعني أمر
واحد أن أي فعل لتغيير الحاكم (باستثناء الانتخابات النزيهة) هو فعل إجرامي يستحق
العقاب والمحاسبة.
وبالتالي نصل إلى مجموعة توصيات نرجو الأخذ بها:
بداية أن يدرك كل شخص وكل حزب وكل جماعة أنهم غير محصنين من المساءلة، وبالتالي
يجب أن يمارس كل مسؤول وكل حزب وكل حركة وكل تيار سياسي مهمة الرقابة الذاتية، وأن
لا يسمحوا لحماستهم أن تجرفهم لارتكاب الجريمة أو انتهاك المبادئ تحت مسمى
"الضرورات تبيح المحظورات"، وأخيرًا يجب إعادة العسكر إلى ثكناتهم في
عالمنا العربي والإسلامي، وعدم السماح لهم بمغادرتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق