أثارت صفقة تبادل الأسرى غضب اليمين الصهيوني واعتبرها إهانة وانتكاسة للكيان الصهيوني وخضوع للمقاومة الفلسطينية، وصدرت ردات فعل متفاوتة بين المطالبة بإطلاق سراح قاتل رابين (من باب المعاملة بالمثل)، وتدنيس قبر رابين وإلقاء الطلاء عليه، وانتهاء بإصدار أكثر من جهة جوائز مالية لمن يقوم بقتل أسرى محررين.
وبالرغم من اشتمال الصفقة على أسرى محررين من مثل نصر يتايمة والمشارك بعملية فندق بارك والتي قتل فيها أكثر من 30 صهيونياً، لكن عروض القتل لم تشملهم واقتصرت على نوعية واحدة من الأسرى المحررين، وهم الأسرى الذين قاموا بقتل مستوطنين من التيارات الأكثر تطرفاً.
الأسرى الثلاثة الذين خصصت لهم مكافئات من أجل قتلهم: هم نزار وخويلد رمضان من قرية تل وكانا جزءاً من خلية قامت بقتل إثنين من حرس مستوطنة يتسهار (عام 1998م) وهي معقل المستوطنين المتطرفين شمال الضفة، ومصطفى مسلماني وقد قام بقتل ابن الحاخام مئير كاهانا وزوجته والذي كان رئيساً لمنظمة "كاهانا حي" وذلك عام 2001م.
ما يجمع المستوطنين المقتولين في هذه العمليات أنهم ينتمون للتيار "الديني-الصهيوني"، وللجناح الأكثر تطرفاً منه، والتيار الديني الصهيوني يختلف عن التيار الديني اليهودي (أو من يعرفون بالحريديم) في نقطتين أساسيتين: أولاً: الحريديم يرفضون الصهيونية لأنها تحتوي على أفكار علمانية تخالف الشريعة اليهودية فيما التيار الديني الصهيوني لا يرى أي تعارض بين الاثنين، ثانياً: الحريديم بشكل عام لا يتدخلون بالشأن السياسي وإن كانوا يميلون لليمين الصهيوني سياسياً، أما التيار الديني الصهيوني فيقف على يمين اليمن، ويعتبر نفسه رأس حربة الصهيونية والاستيطان في الضفة الغربية.
والتيار الديني الصهيوني يمثله بالدرجة الأولى حزب "الاتحاد الوطني" وجماعة "غوش إمونيم"، وفي الضفة الغربية يمثلهم مجلس مستوطنات الضفة (يشع) ومجموعات أصغر وأكثر تطرفاً وعدوانية مثل كاخ وكهانا حي والمجموعات الفضفاضة التي يطلق عليها فتيان التلال.
واستهداف الأسرى المحررين الثلاثة لم يأت صدفة؛ بل هو نتاج طبيعي لهوة تتسع بين مستوطني الضفة الغربية وتحديداً التيار الديني الصهيوني وبين دولة الاحتلال، ونتيجة تراكمات بدأت منذ الانتفاضة الأولى وتصاعدت مع انتفاضة الأقصى.
فالمستوطنون يزعمون أنهم يواجهون الفلسطينيين لوحدهم لذا "فهم وحدهم من يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، أما حكومة الاحتلال فهي تدافع عن مصالح باقي الصهاينة وقد باعتهم وباعت المشروع الاستيطاني في يهودا والسامرة (المسمى الصهيوني للضفة)"، وهذا التفكير ينسجم مع الاعتداءات التي تشن ضد الفلسطينيين في الضفة وخارجها تحت مسمى "تقديم فاتورة الحساب"، فهم لا يثقون بالحكومة الصهيونية ولا مؤسسات الدولة العبرية ويعتبرونها أضعف من أن تحميهم وغير ملتزمة بحماية المشروع الصهيوني.
بعد أن كان الصهاينة في الضفة والقطاع بمثابة إقطاعيين يعيشون بسلام بين الأقنان (عبيد الأرض) الفلسطينيين ويمتصون خيرات البلاد، بدأ هذا الواقع بالتغير بشكل جذري منذ الانتفاضة الأولى وأصبحت المناطق الفلسطينية مناطق محرمة على الصهاينة عموماً، وفيما تأقلم عموم المجتمع الصهيوني مع فكرة أنه لا يمكن الاستمرار بحكم الضفة والقطاع وصولاً إلى انسحاب شارون من غزة عام 2005م، فقد رفض المستوطنون الاعتراف بالهزيمة ويصرون على القتال وحماية المشروع الصهيوني في الضفة حتى لا يتكرر ما حصل في غزة عندما فككت المستوطنات وطرد المستوطنون.
وفي بدايات انتفاضة الأقصى كان المستوطنون يستهجنون ضعف ردة فعل حكومة الاحتلال والمجتمع الصهيوني ككل تجاه عمليات المقاومة في مستوطنات الضفة والقطاع وعلى الطرق الالتفافية داخل الضفة الغربية، ويقارنوها بردات الفعل العنيفة ضد العمليات الاستشهادية وسط تل أبيب أو القدس، فبدأت فكرة أن الحكومة تميز بين دم مستوطني الضفة والقطاع ودم الصهاينة في تل أبيب.
وقبلها اغتيل رابين بسبب اتفاقية أوسلو والتي كان ينفذها وينسحب من مدن الضفة بنفس الوقت الذي كانت تنفذ حماس عمليات استشهادية ضد الصهاينة، كما أن المجتمع الصهيوني طالما نظر إلى المستوطنين على أنهم عبء مالي على الدولة بسبب تكاليف حراستهم وحمايتهم والتسهيلات المالية التي تقدم لهم.
لتأتي عملية الانسحاب من غزة وتفكيك المستوطنات عام 2005م لتزيد الهوة سعة، وأصبح المستوطنون أكثر عدوانية تجاه جنود الاحتلال وأصبح الاعتداء اللفظي على الجنود أمراً معتاداً بل وصل في بعض الأحيان للاعتداء الجسدي، وتشكلت مجموعات للانتقام من الفلسطينيين لكن بحكم تركيبتها الفكرية العدوانية توجه بعضها للاعتداء على صهاينة يساريين (يعتبرونهم خونة) بل قام أحدهم بتفجير عبوة ناسفة أمام منزل عائلة مسيحية إنجيلية أمريكية قدمت لتعيش في مستوطنة أريئيل متضامنة مع المستوطنين، وكل ذنبها أنها ليست "يهودية"!!
وإن كان التوجه العام لمجموعات المستوطنين هو الاعتداء على الفلسطينيين، إلا أن الثابت هو أنه كل ما ازداد ضغط المقاومة وكلما حققت المقاومة انتصاراً كلما كبرت الفجوة بين المستوطنين ودولة الاحتلال، وأن هذه الجماعات مستعدة للاعتداء على صهاينة آخرين تعتبرهم "خونة" مثلما حصل مع رابين، ومع أحد الأساتذة الجامعيين اليساريين الذين فجرت أمام منزله عبوة فأدت لإصابته بجراح.
يجد الناظر إلى صفقة التبادل أن حكومة الاحتلال تعاملت بنوع من التمييز فنرى أن المجموعات العسكرية التي نفذت عمليات داخل الضفة ضد المستوطنين وافقت على اطلاق سراح أغلبهم واستبقت واحد أو اثنين من كل مجموعة مثلما كان الحال مع مجموعة سلواد وخلية خطف فاكسمان وخلية خطف طوليدانو وغيرهم، بينما المجموعات التي نفذت عمليات استشهادية فكان هنالك تشدداً أكبر فنجد مثلاً مجموعة عملية فندق بارك لم يفرج سوى عن عضو واحد فيها.
طبعاً حكومة الاحتلال لم تتعمد ذلك، ولو كان بيدها لما أفرجت عن أحد، لكن عندما تضطر للاختيار فستختار الإفراج عن مقاوم قتل مستوطناً (ولو كان هذا المستوطن ابن كهانا) من أجل الإبقاء على مقاوم قام بالتخطيط وتنفيذ عملية استشهادية في تل أبيب. وهذا بكل تأكيد لن يعجب المستوطنون الصهاينة.
وفي ظل هذه الفجوة وانعدام الثقة بين الجانبين، وفي ظل حقيقة أن هنالك رأي عام صهيوني عام وعالمي ينظر إلى مستوطني الضفة على أنهم عبء وعنصر إزعاج، وفي ظل حقيقة أن مستوطني التيار الديني الصهيوني يعيشون في قلب الضفة وفي مناطق قريبة من المناطق الفلسطينية، يمكن اعتبار المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية بأنه الخاصرة الضعيفة للكيان الصهيوني.
وهذه رسالة للمقاومة الفلسطينية من أجل تركيز العمل ضد المستوطنين على الطرق الالتفافية في الضفة الغربية سواء من خلال عمليات مسلحة أو الزجاجات الحارقة أو الحجارة، وليكن في ذهن الجميع أنه كلما زاد الضغط على مستوطني الضفة زادت الفجوة بينهم وبين باقي المشروع الصهيوني، وازدادت فرصة تنفيس غضبهم ضد الصهاينة الآخرين، واقتربت دولة الاحتلال من الاقتناع بأنهم عبء يجب التخلص منهم.
مثل هذه اللافتات يضعها جيش الاحتلال عند مداخل مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية بالضفة الغربية لمن دخول الصهاينة خوفاً من اختطافهم أو قتلهم، وهذه أحد نتائج انتفاضة الأقصى، فهل نرى مثلها على حدود الضفة الغربية كلها وليس فقط مداخل مناطق الكثافة السكانية؟ هذه مهمة موكولة إلى المقاومة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق