الموضة اليوم أن يستوقفك رجال محاكم التفتيش ليتأكدوا من سلامة سنيتك (اتباع المذهب السني)، لا يهمهم إن كنت مسلماً بالفعل والممارسة ولا حتى بالإسم!! المهم أن تكون سنياً، وليس أي سني بل هنالك مواصفات خاصة و"أيزو" يجب أن تلتزم به، وإلا فأنت إما متشيع يستخدم التقية أو سني مغرر به.
يجب عليك أولاً في حال ذكر أمامك صحابي جليل أن تقول فوراً وبسرعة وبدون أدنى تردد: "رضي الله عنه وأرضاه" إن تلكأت فأنت متهم!! وإن كنت تشرب كأس ماء وانتظرت حتى نزول الماء إلى جوفك فهي مجرد ذريعة منك لتمارس "تقيتك القذرة"!! وإذا ذكر أمامك سيرة الشيعة يجب أن تتبعه بلعن من يلعن الصحابة، وإذا سمعت بسيرة بلاد فارس فيجب أن تلعن المجوس أبناء المتعة من لاعني رسول الله، لا يهم بأي سياق سمعت بها، سواء كانت في درس عن الملل والنحل أم درس عن الجغرافيا، فمحاكم التفتيش لا تعرف التساهل.
كنا نلوم الشيعة لأنهم يلعنون الصحابة، واليوم يطلب منا أن نلعن من يلعن الصحابة، وغداً يلعن الشيعة من يلعن لاعني الصحابة، وهكذا دواليك نصبح أمة لعانين وطعانين، كأننا لم نسمع بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان".
مهمة محاكم التفتيش اليوم تغيير هوية الناس فالانتماء إلى الإسلام ليس مهماً، وبدلاً من أن تسمع الناس تقول اللهم أنصر المسلمين في البلد الفلاني، تجدهم يقولوا اللهم أنصر السنة (حتى لو كان البلد خالي من غير السنة!!)، وعندما تجد أحدهم يناقش في الفقه أو العقيدة أو الأخلاق تجده يقول "هذا ليس من أخلاقنا نحن أهل السنة" أو "نحن أهل السنة نؤمن بكذا وكذا" حتى لو كان يناقش مسيحياً أو وثنياً.
لو قالها في معرض نقاشٍ مع شيعي لفهمت الأمر، لكن أن تقال بمناسبة وبدون مناسبة فهذا دليل على تخريب وتحوير في هويتنا الدينية والعقائدية، فعندما يترفع البعض عن قول "نحن المسلمون"، ويصر على قول "نحن السنة"، فهنالك خلل يجب الوقوف عنده.
يعيش الإنسان ضمن عدة دوائر انتماء ابتداءً من الانتماء للأسرة وانتهاء بالانتماء إلى الدين، ومروراً بالانتماء للعشيرة والوطن والمذهب، وكل إنسان يرتب انتماءاته، فمنهم من يضع العشيرة أولاً ومنهم من يضع انتماءه الوطني أو المناطقي أو الديني أولاً، وبالنسبة لي فقد تربيت على الانتماء للإسلام أولاً، ولم أتربى على الانتماء أولاً لهذا المذهب أو ذاك.
طبعاً أول سؤال سيقفز إليه مفتشو المحاكم: إذا كان انتماءك الأول للإسلام فما هو انتماءك الثاني؟ لن أجيب سؤالهم، ليس لأني لا أؤمن بالمذهب السني ولا لأني اعتبر الانتماء إليه أمراً غير مهم، بل لأني سئمت ألاعيب محاكم التفتيش، لأني سئمت تأكيد ما هو مؤكد، لأني قرفت نظرات الفحص والتمحيص للطريقة التي أقول بها "رضي الله عنه" (لتتأكد إن كانت طريقة لفظي ممتلئة بالتقية أم أنها طريقة سنية من سني مخلص).
طفح الكيل ولم أعد أقبل أن يلبسني الناس طرابيش وأدوار وصفات لا أعرفها ولا أعلم بها، وسئمت الدين الجديد الذي يروجون له، والذي ينص على: "أنه يمكنك أن تسرق وأن تزني وأن تقتل وأن تسب الذات الإلهية، لا نطلب منك شيئاً سوى لعن لاعني الصحابة"، بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين.
لست أبالي بما سيرميني به مفتشو المحاكم، ولست أبالي بالتهم والقوالب الجاهزة، فأنا متأكد من نفسي ومن معتقداتي وهذا يكفيني، ولست مستعداً لأن أكون جزءاً من هذه اللعبة السخيفة ولا من حالة الهوس الجماعي لا متهَماً ولا متهِماً، أنا مسلم من شاء فليصدق ومن شاء فليكذب، وأنا أعرف خمسة أركان للإسلام ولست مستعداً لتبديلها أو زيادتها لأي سبب كان.
في المجتمعات المختلطة التي تتواجد بها أكثر من طائفة ومذهب، فمن الطبيعي أن تبرز الهوية المذهبية بين الحين والآخر نتيجة التنافس (أو حتى التناحر)، لكن ما نراه اليوم ليس مواجهة المذاهب الأخرى، بل عملية غسيل دماغ كاملة، وإعادة تركيب وعينا، يراد لنا أن نتكلم بطريقة يحددها غيرنا، وأن نفكر بطريقة يحددها غيرنا، وأن نستخدم مصطلحات معينة لا نحيد عنها، وأن نتفس هواءً يقرروا نوعه مسبقاً، وأن نلبس طرابيش يختاروها لنا.
باختصار: لن ألبس طربوشكم!
ملاحظة: "لن ألبس طربوشكم" هو عنوان كتاب للقيادي السابق في الجبهة الشعبية أحمد قطامش، ويتكلم فيه عن تجربته في سجون الاحتلال، وإن كنت لم أقرأ الكتاب إلا أنني وجدت العنوان يعبر عن ما بداخلي، وإن كان الاحتلال الصهيوني يريد تغيير هوية الأرض الفلسطينية، فمحاكم التفتيش تريد تغيير هوية الإنسان المسلم، وأنا لن استسلم لأي منهما مهما امتلك من قوة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق