الأربعاء، 19 يناير 2011

ملاحظات سريعة على هامش انتفاضة الشعب التونسي

1- العمل الجماهيري قادر على إحداث الفرق: لطالما استهان الكثيرون بالمظاهرات والمسيرات والاعتصامات ووصفوها بالعبث والإبر التخديرية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، حسناً لقد أثبتت انتفاضة الشعب التونسي أنهم كانوا على خطأ.

يجب أن نؤمن بأنه "ما ضاع حق وراءه مطالب"، والإصرار يأتي بنتيجة مهمة كانت الإمكانيات ضئيلة، هذا ما تعلمنا إياه التجربة التونسية، فالنظام التونسي أنشأ جهازاً أمنياً شيطانياً خنق الناس وعد عليهم أنفاسهم، لكن كل ذلك تهاوى أمام الإصرار، لا التفاوت في المقدرات والامكانات ولا جو الرعب والتخويف استطاع أن يفيد بن علي وزمرته.

أول أمس رأيت دعوة لحزب التحرير في تونس إلى خروج مسيرات لأنصاره، ولا أدري مدى قوة حزب التحرير في تونس لكن هذه الدعوة مؤشر على تغير تفكير الحزب، فلطالما استحقر المسيرات والمظاهرات ولطالما اعتقد بأن التغيير لا يأتي إلا من القمة (أي من الحكم) وليس من القاعدة. في الضفة الغربية نرى بوادر تغير ولو خجولة في نظرته هذه ويحاول التصدي للسلطة من خلال أعمال جماهيرية، وها هو في تونس يخطو خطوة أخرى لينتهي إلى حيث بدأ غيره.

2- الموقف الغربي المنافق: زين العابدين بن علي، هو الطفل المدلل لأمريكا ولفرنسا والنظام العلماني التونسي كان مفخرة الغرب وأنموذجاً لأمركة الإسلام ومسخ قيمه، وقُدِم الدعم غير المحدود لبن علي من تمويل واستثمارات وخبرات أمنية وتسليح لكي يمضي قدماً بمشروع التغريب في تونس، تحت مسمى تنمية وتطوير الشعب التونسي.

اكتشفنا جميعنا في عام 2011م أن تنمية العلمانية التونسية لم تكن إلا أكذوبة تتستر على نظام قمعي بوليسي إجرامي، لكن الغرب أبى إلا نفاقاً وتلوناً، وبدلاً من أن يعترف بخطأه وفشل مشروعه العلماني، رأينا النفاق في أقبح صوره.

حرص الغرب طوال الوقت على الإمساك بالعصا من المنتصف، وفي بدايات انتفاضة الشعب التونسي كان التجاهل شبه التام، وعندما بدأت الأمور بالتصاعد بدأت التصريحات الديبلوماسية المتوازنة التي "تعبر عن القلق" لكنها لا ترقى إلى إدانة بن علي، وعندما توضح أن كل شيء انتهى ووقع الانهيار، لم يعد يلزمهم الرجل، وحتى صديقه الحميم ساركوزي رفض استقباله أو حتى أفراد عائلته، لأنه لا يريد أن يغضب الشعب التونسي.

أوباما امتدح شجاعة الشعب التونسي، وفرنسا بدأت بإلقاء دروس الديموقراطية على تونس، متى؟ بعد سقوط الطاغية، حسناً هذه أمور يعرفها الشعب التونسي الذي انتزع حقه بيده وانتزع حريته بيده، وهو ليس بحاجة لمدح ودروس أهل النفاق والتلون.

3- سلاح الانترنت: أثبت الانترنت أنه سلاح فعال وقوي، وبالرغم من أن النظام حرص على إغلاق كل موقع يأتي منه "ريح" التغيير، وحتى مواقع البروكسي كان يحرص على حجبها حتى لا يلتف الشباب التونسي على حجب المواقع، وبالرغم من كل ذلك تمكن الشعب التونسي من اختراق الحواجز وكأنها لم تكن، وربما لهذا السبب كان أول وعد نفذه بن علي هو رفع الرقابة عن الاعلام وفك الحجب عن المواقع، فقد أدرك أن كل القيود كانت عبثاً ولا فائدة منها.

الانترنت لم يكن وسيلة تواصل اعلامي مع العالم الخارجي فحسب، بل كان وسيلة للتعبئة والتوجيه والحشد والتنسيق والتواصل بين النشطاء، نحن نعيش اليوم عصر ثورة المعلومات، ومن يتكيف مع هذا العصر يكتب له البقاء، وأنظمة مستبدة تقتل الابداع والتميز بكل تأكيد لن تستطيع الاستفادة من وسائل العصر، لأن شراء الأجهزة الأكثر تطوراً لا يكفي، يجب أن يمتلكوا عقولاً تشغلها، والأنظمة المستبدة تفتقر لها.

عصر ثورة المعلومات هو عصر انتصار أصحاب الهمم العالية وأصحاب الإرادة والتصميم، وهزيمة المستبدين قاتلي الابداع ومروجي الخوف والترويع.

4- تونس إلى أين: لطالما روج بن علي للغرب أن البديل عنه هو الإسلاميين والتطرف والظلامية، في حين روج لشعبه (مثله مثل أغلب المستبدين الطغاة) أن البديل عنه هو الفوضى والدمار والتفتت، فلا أحزاب حرة ولا حياة سياسية حقيقية، فإن غاب الصنم (كما وصفه راشد الغنوشي) أنهارت البلد وحل الدمار والخراب.

أثبتت الأيام الأخيرة أن الدمار والخراب في تونس جاء من ناحية السلطة، فما كانت تخربه ببطء طوال السنوات الماضية قررت أن تسرع وتيرته خلال أيام معدودة، حتى يتحسر الناس على ذهاب النظام، لكن شعباً كان يموت كل يوم مئة مرة في عهد بن علي يرى في الثمن الذي دفعه في انتفاضته المجيدة ثمناً بخساً مقابل ما كان سيخسره لو بقي بن علي لحد مماته وخلفه بن علي رقم 2.

البلاد تمر الآن خلال مرحلة انتقالية، وأصحاب بن علي لا يملكون إلا التنازل فقد خسروا المعركة وخسروا الحرب، وكلما أقدموا على خطوة شك الناس بصوابها، اضطروا للتنازل مرة أخرى، وهم لن يتوقفوا عن التنازل ما دام هنالك ضغط عليهم وما دامت الشروط تفرض عليهم، فشعورهم بالهزيمة تام ومطلق، ولا خيار أمامهم سوى التنازل إلا أن لقوا تساهلاً من الطرف الآخر (أي الشعب).

ما هي خطوات الحل المطلوبة؟ الإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين، عودة المنفيين، حرية تشكيل الأحزاب والجماعات السياسية، تشكيل نظام تعددي سياسي حقيقي، والتخلص من النظام الذي تتركز فيه السلطات بيد رجل واحد، يجب توزيع السلطات بين أكثر من جهة، فآخر ما نريده هو استبدال مستبد بمستبد آخر.

5- ضربة قاصمة للعلمانية: كان الباحثون يرددون بأنه لا توجد دول علمانية حقيقية في العالم الإسلامي سوى دولتين: تونس وتركيا. تركيا تمر بثورة هادئة منذ عام 2003م تفرغ مضمونها العلماني وبقيت اليوم القشور العلمانية تغلفها لكن المستقبل القريب سيشهد سقوطها في تركيا، فحتى حزب الشعب الجمهوري حارس العلمانية التركية بدأت تتعالى أصوات داخله تطالب بتغيير الموقف من الدين والتخلي عن العلمانية المتطرفة.

بن علي هرب قبل يومين من تونس إلا أن السقوط المدوي له ولنظام العلمانية التونسية هو ضربة قاصمة للعلمانية في العالم الإسلامي، فمن الواضح أن اختفاء مظاهر العلمانية المتطرفة من تونس هي مسألة وقت لا أكثر، إلا أن الأثر الأقوى لسقوط بن علي هو على صورة النموذج والقدوة الذي كان يمثله للعلمانيين على امتداد العالم الإسلامي، لن يجرؤ أي منهم بعد اليوم على الاستدلال بالتجربة "الحضارية" للعلمانية التونسية.


ليست هناك تعليقات: