الثلاثاء، 15 فبراير 2011

سقوط الديموقراطيات العربية

تعودنا طوال السنوات الماضية على رفض الأنظمة العربية و"مثقفيها" للديموقراطية الغربية، نظراً لخصوصيتنا الثقافية وأننا لا نقبل بالإباحية والمنكرات التي تروج لها الديموقراطيات الغربية، ونظراً لأن لنا في تراثنا الإسلامي ما يغني عن الديموقراطية الغربية.

إلا أن هذا كلام حق يراد به باطل، فمن العجب العجاب أن نرى أنظمتنا العربية تستورد كل ما هو معيب وإباحي ومرفوض شرعاً وعرفاً من الغرب، فيما بقيت عصية على استيراد القليل من الإيجابيات التي يتمتع بها التراث الغربي!! استوردت الخمور وسمحت بترويجها بحجة تشجيع السياحة، وافتتحت الفضائيات الهابطة والراقصة بحجة التحديث والتطوير، وحورب الحجاب واللباس الإسلامي والتقليدي بحجة محاربة التخلف.

أما عند الكلام عن عدم تخليد الحاكم على كرسيه، وعند الكلام عن مشاركة المحكوم للحاكم في عملية اتخاذ القرار، وعند الكلام عن تداول السلطة بشكل سلمي، وعند الكلام عن انتخابات نزيهة، فجأة يتذكر حكامنا وأولي الأمر أن لنا تراثاً إسلامياً لا يجوز تلويثه بهذه "الزندقة" وهذه "اللوثات" الفكرية، وابتدعوا لنا ديموقراطيات عربية مخزية جمعت أسوأ ما في الغرب والشرق، وحكمونا بها طوال عشرات الأعوام، وروجوا لها وكأننا أغبياء لا نميز الصالح من الطالح.

ونستعرض هنا عدداً من أبرز هذه الديموقراطيات التي ميزت عالمنا العربي خلال الفترة الماضية، والتي بدأت تتهاوى مع سقوط نظامي بن علي ومبارك.

ديموقراطية لا أرى لا أسمع لا أتكلم:

وهي الديموقراطية الأكثر تخلفاً وقمعاً في عالمنا العربي، وتعتبر السياسة رجساً من عمل الشيطان يجب على عامة الناس عدم تلويث أنفسهم بأوحالها، ومن أفضل من الحكام معرفة بمصالح البلاد والعباد؟ وليس بالإمكان أحسن مما كان.

كل انتقاد للحاكم أو قراراته هو أجندة أجنبية، وكل همسة ونصيحة مؤدبة هو تخبيص ينصح صاحبه بأن ينصت كي لا يسحله رجال النظام، أليس تعاطي السياسة من أكبر الكبائر؟ لماذا يورط نفسه بها؟

إن كان ولا بد من التغني بالسياسة فيجب التسابق لمدح القائد الملهم وسياسته الحكيمة، وتجنب ما يقلل من قيمته وهيبته أمام العباد والبلاد، متناسين أن الحبيب محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم قد جذبه الأعرابي من بردته وقال له: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فما ضره ذلك ولا مس من هيبته، وعمر رضي الله عنه قد وجد من يقول له: لا سمعاً ولا طاعة، فلم يزد أمير المؤمنين إلا رفعة في أعيننا.

أما زين العابدين بن علي فعندما عاد من رحلة الحج نزلت اعلانات التهنئة في الصحف تقول له حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً، ولم يجرؤ أصحابها على كتابة و"ذنباً مغفوراً"، حتى لا يفهم أنهم يتهموه باقتراف الذنوب والمعاصي!!

ديموقراطية شاوروهم وخالفوهم:

بعض الأنظمة العربية تنازلت قليلاً وسمحت للمعارضة ولعامة الناس التعبير عن آرائهم، بل وشتم القادة والرؤساء والسخرية منهم، قل ما تريد وتكلم بما تشاء وعارض كما تحب، لكن لا تحلم يوماً أن نأخذ برأيك ولو أيدك كل الشعب، ولا تحلم يوماً بأن تأخذ كرسي الرئاسة أو تصبح رئيساً للوزارة.

مكانك في المعارضة من الميلاد إلى الممات، نحن نعطيك حرية التعبير عن ضيقك واشمئزازك، أليست هذه الديموقراطية التي تطالبون بها؟ لا يا سادة ليس هذا ما يريده الناس، الناس لا تريد الانترنت والفيسبوك لكي تفش غلها وتعبر عن إحباطها، لا تريد التنفيس عن غضبها، الناس ليسوا مرضى نفسيين يريدون متنفساً للتعبير عن غضبهم وحسب.

الناس تريد المشاركة باتخاذ القرار، الناس تريد أن يكون لها دور في تحديد مصائرها، الناس تريد تداول السلطة، الناس لا تريد نفس الوجوه تتربع على كرسي الرئاسة لعقود وكأن الأمة لم تنجب إلا سيادته أو جلالته، الناس تريد حاكماً خادماً لها وليس خادماً لمصالحه ومصالح حاشيته.

الناس تريد أن تحاسب الحاكم وأن تحاسب المسؤول، والمسؤول من اسمه يجب مساءلته: ماذا فعلت؟ ولماذا أخفقت؟ ولماذا لم تنجح؟ ويجب عليه أن يجيب، الحاكم هو موظف عند الشعب، ولنا في الخليفة العادل عمر رضي الله عنه قدوة عندما اعتبر نفسه محاسباً على البغلة التي تعثر في العراق، لم يقل أن عثرتها "قضاء وقدر" – طبعاً كل ما في الدنيا قضاء وقدر، لكن ما نرفضه أن تكون هذه الكلمة شماعة تعلق عليها اخفاقات النظام واخفاقات الحاكم.

ومن ضمن محاسبة الحاكم ومحاسبة المسؤول عزله وانتخاب غيره، ليس فقط إن كان فاسداً أو سيء السيرة والسلوك، بل في حال حاول ولم ينجح في إدارة دفة الأمور كما يجب، وأكثر من ذلك في حال فقد قدرته على الابداع الذي تميز فيه أول حكمه فمن واجبه التنحي، فالحكم والمسؤولية هو تكليف وليس تشريف، فليعتزل الحكم وليشرفه الناس وهو متقاعد.

ديموقراطية رجل إلى الأمام ورجل إلى الخلف:

بعض الأنظمة العربية حاولت وتحاول ادخال اصلاحات في منظومتها السياسية، وربما لأن وضعها أفضل من غيرها في العالم العربي، فإنها كلما وجدت نفسها قد أسرعت الخطى في الاصلاحات السياسية تتوقف وتتراجع ندماً على "جرعة الديموقراطية الزائدة" التي حقنت بها الشعب والأمة.

لا ندري لماذا لا يرفع الرئيس الجزائري حالة الطوارئ فوراً؟ ولماذا يسمح بالمظاهرات في كل الجزائر ويستثني العاصمة؟ مثل هذه الأنظمة هي أفضل من غيرها لكن لماذا لا تتخلص من أدران الاستبداد والتخلف السياسي مرة واحدة؟ ما استفز الشعب المصري خلال أسبوعي ثورة الغضب كانت التنازلات المتأخرة والمنقوصة التي يقدمها مبارك، فلماذا الخطوات المنقوصة؟ لماذا الخطوة إلى الأمام والتي تليها خطوة إلى الخلف؟

بعد سقوط نظامي بن علي ومبارك يجب أن يدرك الجميع أن هذا الأسلوب لا يجدي، ربما هذه الأنظمة محصنة حالياً لأنها تتيح شكلاً من أشكال المشاركة باتخاذ القرار في البلد، لكن عندما يقارن شعبها ما لديه بما يوجد في تونس أو مصر في العهد الجديد فستبدأ المشاكل بالتفجر في وجهها.

الناس في عالمنا العربي وعلى عكس ما يشاع أكثر وعياً وأكثر ذكاءً من حكامهم، ويعلمون ما يدور في العالم من حولهم، ويدركون مالهم وما عليهم، ويعلمون أن لهم حقوقاً يجب أن ينالوها كاملة غير منقوصة، ويؤمنون بأن التعبير عن الرأي أو تداول السلطة هي حقوق مستحقة وليست منحة يمن النظام بها عليهم.

ديموقراطية الملل والنحل:

بعض الدول العربية ينقسم فيها المجتمع إلى طوائف أو قوميات، ونظراً لضعف الدولة وعدم إشعارها مواطنيها بأنها الخادم الأمين لهم، فنجد كل طائفة وكل قومية تتكتل في جيوب خاصة وتستقل عملياً عن الدولة وتنشئ دولة داخل الدولة، وإما أن تذهب للمطالبة بالانفصال وتتفكك الدولة مثلما يحصل في السودان (جنوباً وغرباً)، أو تجد هذه الملل والنحل طريقة للتعايش الديموقراطي الخاص مثلما هو الحال في لبنان والعراق.

ديموقراطية الملل والنحل لا اعتبار فيها للإنسان خارج طائفته، فهي مجرد ابن طائفة لسان حاله: "وهل أنا إلا من غزية أن غوت .. غويت وإن ترشد غزية أرشد"، والقرار ليس للأفراد بل للطائفة، تجلس الطوائف وتتفاوض مع بعضها البعض وتتفق وتتوافق، والبلد يقسم إلى حصص ولكل طائفة ما تستطيع انتزاعه.

وبذا بدلاً من أن يكون الحاكم أو الوزير أو الموظف الحكومي خادماً للشعب ومستأمناً على مصالحه يصبح منصبه غنيمة تتنافس عليه الطوائف ولا يشترط توليه الأصلح أو الأفضل، فهو مجرد حصة لهذه الطائفة أو تلك، وهكذا تصبح لدينا دويلات طائفية تتعايش ظاهرياً في دولة مقسمة فعلياً.

ربما من أصعب الأنظمة السياسية اصلاحاً هي ديموقراطية الملل والنحل، فإن كانت ديموقراطية "لا أرى لا أسمع لا أتكلم" وديموقراطية "شاوروهم وخالفوهم" تحتاج لثورات تطيح بالأنظمة المستبدة، وإن كانت ديموقراطية "رجل إلى الأمام ورجل إلى الخلف" تحتاج إلى اصلاحات جذرية واسراعاً في وتيرة الاصلاح، فإن ديموقراطية "الملل والنحل" تحتاج لبث الوعي في كافة فئات المجتمع ورفع مستوى الشعور بالمسؤولية لدى الجميع من أصحاب القرار نزولاً إلى قاعدتهم الشعبية، وهذه من أصعب المهمات.

ليست هناك تعليقات: