الأحد، 13 فبراير 2011

إذا عرف السبب بطل العجب: استقالة عريقات وكشف المستور

عندما سمعت عن استقالة صائب عريقات (صاحب نظرية الحياة مفاوضات) من منصبه كرئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير (دون الاستقالة من باقي مواقعه الرسمية في حركة فتح والمجلس التشريعي) تفاجئت وظننت للحظة أن الرجل سيخرج لنا ويعترف بأخطائه التفاوضية وبأن أسلوبه التفاوضي كان مخزياً، وأن استقالته التي جاءت بعد يوم من الإطاحة بمبارك هي اعترافاً منه بالواقع الجديد واقع ما بعد سقوط مبارك وفقدان السلطة الفلسطينية للأخ الأكبر الذي كان يرعى تنازلاتها وخضوعها لإملاءات الصهاينة.

إلا أنه وعندما الاستماع لتصريحاته وهو يعلن عن سبب استقالته كشف لنا أنه "لم يفهم" رسالة سقوط مبارك، و"لم يفهم" أن الاعتراف بالحق فضيلة، ولم يتعلم أي شيء، جاء ليقول لنا أن استقالته جاءت على خلفية نتائج لجنة تحقيق شكلتها "القيادة الفلسطينية" (ومصطلح القيادة الفلسطينية مصطلح فضفاض يشير إلى العصابة المحيطة بمحمود عباس)، ولأول مرة نسمع عن لجنة تشكلها السلطة (أو حركة فتح) تتوصل إلى نتائج بهذه السرعة (وأغلب لجانها لا تصل لنتيجة أصلاً مثل لجنة التحقيق مع محمد دحلان).

دار التحقيق حول من أين تسربت الوثائق ومن الذي سربها؟ ووجدت اللجنة أنها تسربت من مكتب دعم المفاوضات الذي يرأسه عريقات؟ وبالتالي يوجد "خرق أمني" في المكتب تسبب بوصول الوثائق إلى الجزيرة، وبالتالي يتحمل عريقات المسؤولية عن هذا الخرق، فما كان يهم القوم هو جريمة تسريب هذه الوثائق إلى الجزيرة وليس التحقيق في مضمونها وما كان يجري في أروقة المفاوضات.

وحقيقة فشر البلية ما يضحك؛ الأمر يشبه تقديم أمين سر "عصابة الأربعين حرامي" استقالته لأن تساهله أدى لأن يعرف علي بابا كلمة سر المغارة وانفضاح أمر العصابة. الجماعة غضبوا لأن هنالك من وفر للجزيرة مادة إعلامية تحرج "القيادة الفلسطينية"، ما أغضبهم هو إحراج العصابة المحيطة بمحمود عباس، ما أغضبهم هو الصورة الإعلامية لصائب عريقات وياسر عبد ربه وأحمد قريع والطيب عبد الرحيم وسلام فياض.

لم يغضبهم ما جاء في هذه الوثائق من تنازلات مخزية قدمها المفاوض الفلسطيني، ولم يغضبهم ما فضحته هذه الوثائق من تنسيق أمني يتباهى بعدد الاستشهاديين الذين قامت الأجهزة الأمنية بتبليغ الصهاينة عنهم، ولم يغضبهم أن المفاوض الفلسطيني كان يكذب عندما كان يقول أننا اقتربنا من التوصل إلى اتفاق وبقيت بعض الأمور العالقة لنكتشف بعدها أنه لم يكن هنالك أي اتفاق على أي شيء، فقط دردشة على هامشها تنازلات مجانية يقدمها المفاوض الفلسطيني دون الحصول على أي مقابل.

كان بإمكان عريقات أن يحفظ ماء وجهه ويقول أن استقالته جاءت بسبب "تعنت المفاوض الصهيوني"، وأن قرارات توسيع الاستيطان في القدس التي صدرت قبل يومين هي القشة التي قصمت ظهر البعير، وكان بإمكانه أن يكون صادقاً ويقول أن عصر ما بعد مبارك لا يحتمل أمثاله، أو أن يدعي أن "التضليل الذي كان يمارس عليه" انكشف بعد سقوط مبارك، لكنه مثله مثل مبارك لم يجد إلا سبباً مخزياً لتنحيه وخروجه من المشهد.

كان بإمكان مبارك في خطابه الأخير أن يكون أكثر تواضعاً وأن يعترف بأخطائه وأن يعيش للحظات معدودة في كوكب الأرض وهو يكلم أهله وشعبه، لكنه خرج بهذه الطريقة المستفزة ليؤجج الثورة المصرية وبدلاً من كسب تعاطف المصريين في يومه الأخير جعل حتى أقرب الناس له ولنظامه يلعنوه ويشتموه، أنت سترحل يا مبارك ويا "رايح كثر الملايح"، إلا أن من طمس على قلبه لا يعقل ولا يفهم ولا يستوعب.

وبنفس المنطق الأعوج جاء عريقات ليختم حياته التفاوضية بطريقة مخزية، أنت ستغادرنا (هكذا يفترض) فلتقل كلاماً ليتذكرك الناس بخير، وليقولوا عنك أنك كنت شجاعاً وتهتم بمصالح الشعب الفلسطيني وأحاسيسه، ما يفيدك الدفاع عن مفاوضات فاشلة؟ ما يفيدك الكبر والعناد ورفضك الاعتراف بأخطائك؟ أتعتقد أن الناس لا يعرفون فداحة ما ارتكبته في عشرين عاماً من "الحياة مفاوضات"؟ كل شيء مكشوف ومعروف.

وإذا كان يقال عن الشعب المصري أنه مغرر به وتكثر فيه الأمية وأنه راض بحكم مبارك، ليتبين بعدها أن الأميين (قبل المتعلمين) كانوا يدركون جرائم مبارك ويعونها، وأن عموم الشعب المصري الذي كان يخشى مجرد التكلم في السياسة كشف لنا عن وعي سياسي رفيع في لحظة الحرية، فما بالك بشعب مسيس حتى النخاع وانتفض مرتين ضد الاحتلال الصهيوني؟ ألا تدرك أن الجميع يسمع ويرى ويفهم.

ويبقى أن نشير إلى اقتصار استقالة عريقات على منصبه في رئاسة دائرة المفاوضات بمنظمة التحرير، وبقاءه بمناصبه الأخرى في حركة فتح والمجلس التشريعي، يعني أن الرجل لا ينوي الرحيل عن الحياة السياسية، وأن ما قام به مجرد مناورة إعلامية للتخفيف من أثر الفضيحة التي تسببت بها وثائق الجزيرة، ولا نستبعد عودته إلى المفاوضات تحت مسمى "كبير المفاوضين الفلسطينيين" وهو منصب وهمي اخترعه لنفسه لم يشمله قرار استقالة عريقات.

ويبدو أن السلطة تعلمت الدرس الخطأ من ما حصل في مصر (وقبلها تونس)، وما زالت تظن أن الخطوات المجتزأة والجراحات التجميلية يمكن لها أن تحسن من وضعها أمام الناس، وإذا كان توقيت استقالة عريقات في اليوم التالي للإطاحة بطاغية مصر هدفه أن تقولوا للناس أنكم تعلمتم الدرس واستخلصتم العبر، فهذه محاولة فاشلة ويجب الإدراك أنه بدون مصارحة الشعب الفلسطيني وبدون اتخاذ إجراءات جذرية فمثل هذه المناورات التكتيكية المحدودة ستكون عبئاً عليكم، مثلما كانت مناورات مبارك التكتيكية عبئاً عليه أطاحت برأسه في النهاية.

ليست هناك تعليقات: