الجمعة، 5 فبراير 2010

دروس وعبر: في ذكرى استشهاد القسام -2-


ركز القسام على تدريب الرجال وإعدادهم، فقد آمن بضرورة الإعداد الجيد قبل إعلان الثورة، وكان الإعداد في رأيه ليس التدرب على السلاح فحسب بل أيضاً مكافحة الأمية ونشر الوعي الديني والسياسي، إلا أن القسام كان يتعرض لضغوط من أتباعه المستعجلين لإعلان الثورة وحمل السلاح بوجه الحركة الصهيونية والاحتلال البريطاني.

وفي الفترة بين عامي 1929م و1935م نفذت المجموعات التابعة للقسام مجموعة من العمليات، وأبرزها تفجير عبوة ناسفة في غرفة تعود لحراس مستوطنة نهلال في مرج ابن عامر عام 1932م حيث قتل اثنين من حراس المستوطنة، فضلاً عن قتل عدداً من المستوطنين خلال عدة عمليات إطلاق نار.

ومن غير الواضح عما إذا كانت هذه العمليات تتم بتوجيه من القسام أم نتيجة لاستعجال رجاله العمل العسكري، في ضوء الموقف المعروف للقسام الذي كان يعطي للتدريب والإعداد الأولوية القصوى، إلا أن من يعرف طبيعة العمل السري والتشكيلات القائمة على خلايا عسكرية مثل التي شكلها القسام يدرك أن هذه الخلايا تعمل ضمن هامش حرية واسع نسبياً، ويبدو أن هذه العمليات نفذت ضمن هامش الحرية هذا.

وذهب بعض الباحثين إلى أن خليل محمد عيسى والملقب بأبي إبراهيم الكبير، ويعد الرجل الثالث بعد القسام والشيخ فرحان السعدي، قد اختلف مع القسام، فقد كان يرى استعجال البدء بالعمل المسلح، واستقل في عمله مع مجموعته ونشطوا في منطقة حيفا – شفاعمرو، وعرفوا خلال ثورة عام 1936م بـ "الدراويش" (كان الناس في تلك الأيام ينسبون كل شيء متدين إلى الجماعات الصوفية والدروشة).

كان ميناء حيفا استراتيجياً ومهماً بالنسبة لبريطانيا وكانت تصدر عبره نفط شمال العراق إلى أوروبا، وعمل به المئات من العرب ليس فقط من فلسطين بل من مصر ودول أخرى، وكان الكثير من رجال القسام من العاملين في الميناء، مثل أبو إبراهيم الكبير نفسه وهو من قرية المزرعة الشرقية، وسيد عطية من مصر ورفيق القسام في نيل الشهادة.

بالرغم من موقف القسام الحاسم من الاحتلال البريطاني وممن يتعامل مع المحتل البريطاني إلا أن ذلك لم يمنعه من التعامل مع عمال الميناء، كما لم تمنعه معصية العصاة من دعوتهم ومحاولة إصلاحهم، فقد كان يدرك أن خلف كل إنسان عاصي أو عامل في ميناء تشغله بريطانيا العظمى يكمن مشروع مؤمن ملتزم ومشروع مجاهد.

لم يكتف القسام بتجنيد الرجال في حيفا بل وسع نشاطه إلى القرى المجاورة مستغلاً عمله كمأذون شرعي، كما توسع جنوباً فجند الرجال من منطقة جنين، وأبرزهم كان الشيخ فرحان السعدي من قرية المزار والشيخ يوسف أبو درة من سيلة الحارثية ومحمد صالح الحمد من سيلة الظهر (وكلها قرى في قضاء جنين)، وكانوا من أبرز قادة ثورة عام 1936م، بل إن الشيخ فرحان السعدي كان مفجر ثورة عام 1936م.

حاول القسام إقناع الحاج أمين الحسيني بالانضمام إليه في مساعي الإعداد للثورة، لما يتمتع به الحاج من نفوذ على مستوى فلسطين عامة ومنطقة القدس ووسط فلسطين خاصة، إلا أن الحاج أمين اعتقد في تلك الفترة أنه ما زال من المبكر حمل السلاح بوجه بريطانيا وأنه من المفضل اتباع الوسائل السلمية للضغط على بريطانيا، واكتشف الحاج أمين الحسيني لاحقاً أنه لا بديل عن الثورة وذلك عام 1939م.

القسام في أحراش يعبد:

بدأ الاحتلال البريطاني بالتنبه للقسام مع ازدياد نشاط مجموعاته، وفي شهر 10 من عام 1935م خطب القسام خطبة نارية وجمع التبرعات للجهاد ثم اختفى عن الأنظار، ويبدو أنه شعر باشتداد قبضة البريطانيين وأنه قد يعتقل أو تجهض مشاريعه في مرحلة مبكرة.

توجه القسام في الشهر التالي إلى قرية نورس قرب جنين حيث التقى بالشيخ فرحان السعدي للقيام بجولة في قرى جنين ونابلس لتجنيد رجال جدد، وكان معه عشرين رجلاً من اتباعه، وانطلق بعدها قاصداً عدداً من القرى المجاورة. وفي 14/11 اصطدمت المجموعة قرب قرية فقوعة بحارس مستوطنة عين جارود المجاورة الذي كان يتفقد المنطقة المحيطة بالمستوطنة، فقاموا بقتله مما أدى إلى لفت انتباه سلطات الاحتلال البريطاني وبدأت عملية مطاردة المجموعة.

وقرب قرية كفر دان بعدما اشتدت الملاحقة قرر أحد أفراد المجموعة محمد أبو قاسم خلف، وهو من قرية حلحول شمال الخليل وأحد عمال ميناء حيفا، البقاء في المكان ومشاغلة القوة البريطانية التي تطاردهم حتى يمنح رفاقه الوقت اللازم للهروب، واشتبك مع القوة البريطانية وسقط شهيداً.

وفي الطريق قرر القسام أن يقسم مجموعته إلى قسمين حتى يخفف من الخسائر في حال حصل مكروه، وتوجه مع 8 من رجاله صوب أحراش يعبد، وعند خربة الشيخ زيد الواقعة رصد أحد أفراد المجموعة قوة استطلاع بريطانية فأطلق عليها النار مما أدى لمقتل ضابط بريطاني، ويبدو أنه ظنها قوة صغيرة وأنها ستكون غنيمة سهلة، لكنها كانت مجرد قوة استطلاعية.

وعلى الفور بدأت القوات البريطانية بمحاصرة منطقة الأحراش واستدعت التعزيزات، وتجاوز عدد القوة الـ400 جندي وشرطي فضلاً عن مساندة الطيران، ومرة أخرى قرر القسام قسم المجموعة إلى قسمين فأمر خمسة من الذين كانوا معه بأن ينسحبوا من المكان، وبقي مع ثلاثة من رفاقه لمشاغلة القوة المحاصرة، ودارت معركة استمرت طوال يوم 19/11 حتى فجر اليوم التالي، واستشهد القسام وسعيد عطية ويوسف الزيباري فيما أصيب حسن الباير ووقع في الأسر هو وثلاثة آخرين من المجموعة.

ومما رواه رفاق القسام أنه في معركة أحراش يعبد أوصاهم بعدم استهداف رجال الشرطة العرب، وأن يحاولوا قتل الجنود البريطانيين فقط، من منطلق أن رجال الشرطة قد يكونوا مضللين وأنه قيل لهم أنهم يطاردون عصابة من قطاع الطرق. ولم يكن هذا غريباً عن نهج القسام وهو الذي كان يزور المقاهي ليدعو روادها إلى الصلاة وهو الذي كان يزور من اشتهروا بفسوقهم وعصيانهم في منازلهم حرصاً على هدايتهم ودعوتهم.

أعطى القسام مثالاً حياً للبندقية الواعية، البندقية التي تخدم هدفاً سامياً وتتخذ طريقاً سليماً لتحقيق هذا الهدف، القسام طلب من أفراد مجموعته التفرق ولم يطلب منهم البقاء لمواجهة البريطانيين لأنه حرص على أن يبقوا على قيد الحياة ومواصلة مسيرة الجهاد من بعده، ومثل القادة العظام قرر أن يكون في مقدمة المعركة وأن يكون آخر من ينسحب من أرض المعركة.

في معركة أحراش يعبد قال القسام جملته المشهورة التي ما زالت تتردد حتى اليوم: "إنه لجهاد نصر أو استشهاد"، هكذا فهم القسام العمل الجهادي، يجب أن يكون هنالك هدف وليس مجرد الجهاد لأجل القتال، بل القتال لكي ننتصر وأن نتخذ ما يكفي من أسباب النصر من تدريب وتجهيز وإعداد وتخطيط، وإن لم يكن النصر في الحياة الدنيا فلتكن الشهادة والنصر في الحياة الآخرة.

أثر استشهاد القسام على مسيرة المقاومة والجهاد:

أحدث استشهاد القسام هزة عميقة في المجتمع الفلسطيني، فقد كانت مكانته الشعبية عظيمة لدى الناس الذين عرفوه خطيباً مفوهاً ورجل إصلاح وعمل اجتماعي، لم يكن أكثر الناس على دراية بالجانب الجهادي الميداني للقسام، فكان مثالاً لرجل عمل بما كان يدعو له، وخرج آلاف الناس في مسيرة مهيبة ودفن في قرية بلد الشيخ قرب حيفا.

مع دفن جسد القسام ولدت مدرسة القسام، فكم من خطيب ومنظر دعا للجهاد، لكن عندما يأتي وينظر لفكرة ويطبقها على أرض الواقع فستكون أقوى وقعاً في نفوس الناس، كان أثر القسام في حياته مقتصراً على أهل حيفا وشمال فلسطين، لكن باستشهاده عم أثره جميع فلسطين، وبات هنالك وعي بخطورة المشروع الصهيوني وبوجود خيار حمل السلاح لمحاربة هذا المشروع ولمحاربة بريطانيا العظمى التي تحميه وتدافع عنه.

كان لرجال القسام دوراً كبيراً في تأجيج وقيادة ثورة عام 1936م، وتميزوا عن غيرهم من الثوار بتدينهم وحسن تعاملهم مع الشعب، وما زال أثرهم باقياً حتى اليوم، فمثلاً بلدة سلواد كان لها ولرجالها دور كبير في الثورة، منهم والد خالد مشعل - عبد الرحيم مشعل والذي شارك بالثورة وهو شاب صغير، ولا بد أن لذلك أثر على تربيته لابنه الذي يقود حركة جناحها العسكري يحمل اسم القسام.

وعلى نمط "تأثير الفراشة" لعلماء البيئة، يمكن استقراء أحد آثار القسام في سلواد، فخلال ثورة عام 1936م أقام البريطانيون نقطة للشرطة على طريق وادي عيون الحرامية القريب من البلدة للمساهمة في حفظ أمن الجيش البريطاني، وفي انتفاضة الأقصى أنشأ جيش الاحتلال الصهيوني نقطة تفتيش عند نفس النقطة، لتكون مقبرة لـ12 جندياً صهيونياً قتلهم قناص "عيون الحرامية" ابن بلدة سلواد ثائر حماد عام 2002م، فبعد أكثر من سبعين عاماً ما زال صدى القسام يتردد في جبال فلسطين.

اندلعت شرارة ثورة عام 1936م على يد الشيخ فرحان السعدي، عندما نصب هو وعدداً من رفاقه حاجزاً على طريق عنبتا- طولكرم وأوقف السيارات بحثاً عن يهود وقتل مسافرين يهوديين، كما جمع التبرعات من السائقين العرب قائلاً لهم نحن رجال القسام، في اليوم التالي اندلعت مواجهات في يافا بين اليهود والعرب، فقد كانت منطقة يافا -وما زالت حتى يومنا هذا- مركز تجمع اليهود الأساسي في فلسطين، وتصاعدت الأمور لتندلع الثورة الكبرى التي استمرت ثلاث سنوات، والتي سنتكلم عن دور الشيخ فرحان السعدي فيها في المرة القادمة بإذنه تعالى.

ليست هناك تعليقات: