السبت، 28 ديسمبر 2019

القصة المنسية: مسلمو رواندا



في ظل كثرة الحديث عن المسلمين المضطهدين في العالم، أرى أنه من المفيد الكلام عن قصة مختلفة لنجاح المسلمين في دولة رواندا الإفريقية، حتى نلمس كيف يمكن أن ينجح المسلم في هذا العالم رغم كل الظروف والحرب التي تشنها الدول الاستعمارية على الإسلام.

اشتهرت دولة رواندا بسبب واحدة من أبشع مجازر الإبادة الجماعية في تاريخ البشرية، التي وقعت عام 1994م وأدت لمقتل ما بين 500 ألف ومليون إنسان في أقل من مئة يوم، إلا أن القليل جدًا كتب عن الدور الإيجابي للمجتمع المسلم الصغير في هذا البلد خلال الحرب، فقد بذلت جهدًا كبيرًا حتى أجد مراجع موثوقة على الانترنت للوصول إلى الخطوط العامة لقصة النجاح هذه.

خلفية عامة:

تقع دولة رواندا في وسط إفريقيا ومساحتها قريبة من مساحة فلسطين وعدد سكانها 12 مليون نسمة، غالبيتهم الساحقة من المسيحيين وهي أكثر دول إفريقيا "كاثوليكيةً"، استعمرتها ألمانيا عام 1884م ثم بلجيكا عام 1916م إلى أن نالت استقلالها عام 1962م.

تتكون رواندا من قبيلتين أساسيتين: الهوتو ويشكلون 80% من السكان، والتوتسي 10- 15% من السكان وقبائل أخرى، وكان التوتسي يحكمون مملكة رواندا قبل الاستعمار رغم أنهم أقلية وحافظوا على موقعهم خلال عهد الاستعمار، إلا أن الاستعمار البلجيكي ألغى الملكية وبعد الاستقلال استلم الهوتو الحكم ومارسوا الاضطهاد ضد التوتسي فنشأت جماعة معارضة مسلحة من التوتسي.

اغتيل رئيس رواندا في 6/4/1994م واتهم التوتسي بذلك لتنطلق بعد ساعات أكبر عملية إبادة جماعية برعاية حكومية استهدفت التوتسي وسط صمت دولي، قتل في المجازر ما بين 500 ألف ومليون إنسان، نساء وأطفال ورجال أحرقوا وذبحوا بلا رحمة.

لم تتوقف المجازر إلا بعد أن تمكنت حركة المعارضة المسلحة التابعة للتوتسي من الاستيلاء على الحكم، وبدأت بعدها مرحلة جديدة في البلاد تضمنت محاكمات جماعية للمشاركين في المجازر وإجراءات لتوحيد الشعب الرواندي، واليوم دولة رواندا هي واحدة من أكثر دول أفريقيا تطورًا واستقرارًا ومن أسرع 10 دول في العالم نموًا اقتصاديًا.

أين المسلمون من القصة؟

رغم العدد القليل للمسلمين في رواندا وقت المذبحة (حوالي 1% فقط من السكان) إلا أنهم وفروا الحماية للتوتسي من المجازر الجماعية، ومسلمو رواندا موزعون بين الهوتو والتوتسي حيث رفض مسلمو الهوتو المشاركة في المجازر الجماعية، ووفروا الحماية ليس فقط لإخوانهم المسلمين بل لكل من لجأ إليهم.

أدى هذا إلى اكتساب المسلمين احترامًا ومكانة خاصة عند الشعب الرواندي، ودخل الإسلام أعداد كبيرة من التوتسي والهوتو، وتضاعفت نسبة المسلمين رغم عدم توفر إحصائية دقيقة عن نسبتهم اليوم لكن على أقل تقدير هم 4.6% بحسب تقرير حكومي عام 2006م، وهنالك تقديرات أخرى ترفع نسبتهم إلى 14% مثل تقرير للواشنطن بوست عام 2002م.

الوجود الإسلامي في رواندا حديث نسبيًا فلا يتجاوز الثلاثمئة عام، وبعض المصادر تتكلم عن 120 عامًا فقط (أراها أكثر دقة)، وأقدم مسجد في رواندا هو مسجد الفتح في العاصمة وبني عام 1913م، ووصل الإسلام عن طريق التجار العرب القادمين من زنجبار شرق إفريقيا وبدأ بالانتشار البطيء والتدريجي، وجاءت مجازر عام 1994م لتزيد نسبة اعتناق الإسلام بشكل كبير.

كما ساهم بدفع الروانديين لاعتناق الإسلام الدور السلبي لرجال الدين الكاثوليك في الحرب الذين شارك بعضهم في المجازر، فأدى لردة فعل سلبية تجاه الكنيسة الكاثوليكية ولم يقتصر الأمر على اعتناق الإسلام بل تحول الكثيرون إلى المذاهب المسيحية البروتستانتية المختلفة حيث تنشط جماعات إنجيلية كثيرة في رواندا.

وفي الحقيقة ما لفت نظري في البداية لقصة الإسلام في رواندا هو خبر قرأته بالصدفة عن منع الحكومة الرواندية استخدام السماعات في الساحات العامة واستثناءها المساجد من المنع، وبعد التحري تبين أن المستهدف هو الجماعات التبشيرية الإنجيلية ومحاولة الكنيسة الكاثوليكية وقف تمددها.

وفي الواقع فالكنيسة الكاثوليكية ليست راضية عن النشاط الدعوي الإسلامي وسبق أن حرضت على المسلمين في الستينات، إلا أني قرأت أن المسلمين يتمتعون باحترام خاص وسط الشعب الرواندي بسبب دورهم في المجزرة، في البداية اعتقدت أنه ربما تكون قصة مزيفة أو مبالغ بها فأنا لم أسمع عن ذلك من قبل (وأظن أغلبكم كذلك)، بحثت عبر جوجل وتأكدت المعلومة لكن من مواقع لم استطع التأكد من مصداقيتها.

ما أعاد اهتمامي بالموضوع مشاهدة فيديو على الفيسبوك لأحد أبناء التوتسي الذين اعتنقوا الإسلام، والذي روى قصة إسلامه وكيف نجا من الموت بعدما لجأ للمسلمين، فقلت في نفسي يستحيل أن يكون التزوير لهذه الدرجة، وأعدت البحث مرات عدة وتأكدت من القصة عبر تقارير متواترة منها صحيفتا الواشنطن بوست ونيويورك تايمز الأمريكيتان الشهريتان، وبحث علمي لدكتورة كندية، وهنالك توثيق لشهادات الضحايا عن حماية المسلمين لهم في تقرير للأمم المتحدة.

لماذا الإهمال؟

من المؤسف أن لا تحظى هذه القصة باهتمام المسلمين، فمن المفارقات أن جميع من كتب عنها بالعربية مصادره صحفيون وكتاب غربيين.

هذه قصة نجاح للإسلام دخل بلدًا منذ مدة قصيرة حيث قدم المسلمون نموذجًا مشرفًا، واستطاعوا النجاح رغم العقبات الكثيرة ومن بينها المضايقات تحت ستار مكافحة الإرهاب والخوف من "التنظيمات الإسلامية المتشددة"، تستحق الدراسة حتى نستفيد من العبر؛ فمثلًا كم من جمعية إسلامية في العالم تفكر بتقديم يد العون لغير المسلمين؟

ألا ترون أن القلة القليلة من مسلمي رواندا الأوائل خدموا الإسلام من خلال حمايتهم غير المسلمين أكثر مما خدمها أولئك الذين يدخلوننا كل فترة بنقاشات لا تنتهي حول فتاوى تحرم الترحم على غير المسلمين أو معايدتهم؟

والجانب الآخر: في ظل حرص الإعلام الغربي على تشويه الإسلام ووصمه بالإرهاب، ألا ترون ضرورة تسليط الضوء على هذه التجربة؟ ألا ترون أنها أكثر جدوى من أولئك الذين يتملقون الغرب بكلمات المجاملة والكلام المستهلك عن تسامح الإسلام ومسخ القيم والتعاليم الإسلامية حتى تكون "كيوت" ومقبولة على المزاج الغربي؟

ليست هناك تعليقات: