لم تكن عملية الطعن التي نفذها الأسيرين محمد أبو الرب
ويوسف أبو زينة، قبل أيام، إلا استمرارًا لمسيرة هذه البلدة في مقارعة المشروع
الصهيوني منذ أكثر من ثمانين عامًا.
قباطية كبرى بلدات محافظة جنين، وعدد سكانها حوالي 24
ألف نسمة، وتبعد أقل من عشرة كيلومترات جنوبي مدينة جنين.
ومن المفارقات أن قباطية من بين المناطق القليلة جدًا في
الضفة التي لم تتضرر من الاستيطان ومصادرة الأراضي، لكنها كانت دومًا في مقدمة
الحرب دائمًا، فالمعادلة هي أننا شعب واحد وأمة واحدة وحربنا واحدة.
تتميز قباطية عن غيرها ليس فقط في أن أبناءها شاركوا في
جميع محطات المقاومة منذ ثورة عام 1936م، بل كانت لهم علامات فارقة في كل مرحلة
تقريبًا.
ثورة عام 1936م:
كانت البداية مع ثورة عام 1936م حيث كانت قباطية مثل
أغلب قرى قضاء جنين، مركزًا للعمل الثوري ضد الاحتلال البريطاني.
وهنا لا بد من الإشارة إلى محمد أبو جعب، وهو أحد رجال
القسام، ومؤسس مجموعة "الكف الأسود" التي تخصصت بتنفيذ اغتيالات في صفوف
كبار المسؤولين البريطانيين.
وأبو جعب نفسه قام باغتيال حاكم منطقة الجليل الجنرال
أندروز في الناصرة في أيلول عام 1937م، وكان الاغتيال الشرارة التي أطلقت المرحلة
الثانية من الثورة الفلسطينية الكبرى، والتي كانت أكثر قوة وعنفًا وخلالها استطاع
الثوار تحرير مساحات كبيرة من فلسطين، مما اضطر بريطانيا لاستقدام قوات إضافية من
أجل إعادة احتلال فلسطين.
كما قام بتصفية عدد من العملاء الذين خدموا بالشرطة
البريطانية، بينهم مشاركين في اغتيال عز الدين القسام.
واعتقله الإنجليز وحكموا عليه بالإعدام إلا أنه استطاع
الهرب من السجن ثم توجه إلى الخارج.
كما قام المجاهد علي أبو عين باغتيال حاكم قضاء جنين
الجنرال موفت عام 1938م.
حرب عام 1948:
هاجمت القوات الصهيونية في حزيران عام 1948م مدينة جنين
والقرى المحيطة بها، واحتلتها ووصلت إلى مشارف قباطية جنوبًا، وكادت تتكرر مأساة
التهجير والنكبة مثلما حصل في يافا وطبريا وصفد وغيرها.
إلا أن الجيش العراقي تدخل وبدأ هجومه المضاد من المنطقة
الجنوبية لجنين، وتمكن من تحرير مدينة جنين و21 قرية أخرى، وهي أهم معركة استطاعت
الجيوش العربية الانتصار فيها على الصهاينة خلال حرب الـ48.
رغم أنها كانت معركة جيوش نظامية، إلا أن الكثير من
المتطوعين من قباطية وقرى جنين الأخرى شاركوا في المعارك الشرسة مع العصابات
الصهيونية.
ودفن 44 من شهداء الجيش العراقي عند مفترق الطرق، الذي
يصل طريق بلدة قباطية مع الطريق الرئيسي بين جنين ونابلس، وما زالت مقبرة شهدء
الجيش العراقي تقف حارسةً ذلك الانتصار الثمين.
وتعرف اليوم المنطقة المحيطة بالمقبرة بمثلث الشهداء وهي
البوابة الغربية لبلدة قباطية، كأنها تقول أن قدر هذه البلدة مثل قدر الجنود
العراقيين المدفونين عند مدخلها هو الدفاع عن شرف الأمة والانتصار على عدوها
الصهيوني.
ما بعد نكسة 1967م:
احتضنت قباطية العمل المسلح المقاوم الذي انطلق بعيد
احتلال الضفة الغربية عام 1967م، واستخدمها ياسر عرفات مقرًا له عندما تسلل إلى
الضفة لفترة محدودة بعد النكسة، من أجل تنظيم المقاومين والعمل المسلح.
الانتفاضة الأولى:
كانت بلدة قباطية معقلًا شرسًا في مقاومة الاحتلال في
الانتفاضة الأولى، ومنطلقًا للجناح العسكري لحركة فتح في الضفة والذي عرف وقتها بالفهد
الأسود، والذي أسسه الأسير المحرر أحمد عوض كميل.
وفي قباطية أعدم أحد كبار العملاء ويدعى محمد العايد في
24/2/1988م، بطريقة غير مسبوقة، حيث خرج أهالي القرية وحاصروا منزله، فيما كان
يطلق النار عليهم وقتل وأصاب العديد منهم، وكانوا في سباق مع الزمن يريدون الوصول
إليه قبل وصول جيش الاحتلال لينقذه.
وبالفعل تمكنوا منه وأعدموه وعلقوا جثته على عامود كهرباء،
وما زلت أذكر كيف شاهدته في إحدى نشرات الأخبار معلقًا، ورغم أن المشهد لم يستمر
إلا لثانيتين، لكن في زمن ما قبل الإنترنت والفضائيات كان منظرًا غير مألوف.
قتل خلال الانتفاضة الأولى ما بين 1000 و1400 عميل، لكن
أغلب التصفيات كانت تتم بالاغتيال أو الاختطاف ثم الإعدام، وأغلب الذين استهدفوا
هم من صغار العملاء، فما جعل حادثة قباطية مختلفة أنه كان إعدامًا علنيًا ولأحد
كبار العملاء، فكان له دور نفسي حاسم في محاصرة ظاهرة العمالة وردعها في مرحلة
مبكرة من الانتفاضة.
العمليات الاستشهادية وكتائب القسام:
كان الشهيد عبد القادر كميل (استشهد عام 1992م) أحد
مؤسسي كتائب القسام في الضفة الغربية.
أما العملية الأبرز التي خرجت من قباطية فهي عملية
الشهيد رائد زكارنة، عندما فجر سيارة مفخخة في العفولة بتاريخ 6/4/1994م والتي أدت
لمقتل 9 مستوطنين وإصابة 40 آخرين، وكانت افتتاحية عمليات الشهيد يحيى عياش ثأرًا
لدماء شهداء مجزرة المسجد الإبراهيمي.
انتفاضة الأقصى:
كانت منطقة جنين أحد أهم معاقل انتفاضة الأقصى التي
ينطلق منها الاستشهاديون، وكانت قباطية مقرًا ومنطلقًا للكثير من الخلايا من كتائب
القسام وشهداء الأقصى وغيرها.
واستخدم العديد من قادة القسام منطقة قباطية مقرًا لهم،
مثل الشهيد نصر جرار والشهيد قيس عدوان، وخصوصًا بعد معركة مخيم جنين عام 2002م.
انتفاضة القدس:
رغم قلة انخراط مناطق شمال الضفة الغربية في انتفاضة القدس،
وبالأخص محافظة جنين، إلا أن قباطية أبت إلا أن تشارك بقوة في الانتفاضة.
فخرج العديد من شبانها لتنفيذ عمليات استشهادية، لعل
أبرزها العملية التي نفذها الشهداء أحمد ناجح أبو الرب ومحمد حلمي كميل وأحمد راجح
زكارنة في باب العمود بالقدس في 4/2/2016م وأدت لمقتل مجندة صهيونية، وكانت إحدى
أول العمليات النوعية في الانتفاضة.
وتأبى عملية الأسيرين محمد أبو الرب ويوسف أبو زينة إلا
الانضمام للعمليات النوعية، فتمكنا من اختراق الحصار المشدد المفروض على الضفة
بمناسبة الأعياد الصهيونية، والذي فرض تحديدًا بحجة منع المزيد من العمليات.
وقتلا أحد الشخصيات الاستيطانية الهامة وانسحبا من
المكان بسلام واستطاعا الوصول إلى جنين، ضاربين بعرض الحائط كل الإجراءات الأمنية
الصهيونية.
في الختام:
ما استعرضته هو مجرد مقتطفات لتاريخ هذه البلدة في
مقاومة الاحتلال الصهيونية، ولو أردنا التوقف عند جميع محطاتها في المقاومة
لاحتجنا إلى كتاب، فهذه البلدة تأبى أن تمر محطة نضالية على شعبنا الفلسطينية دون
أن تضع بصمتها الخالدة عليها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق