عندما حصلت
حادثة دهس المستوطنين ليلة الأربعاء الماضي، والتي قتل فيها مستوطن وأصيب اثنان
آخران، رجحت شرطة الاحتلال أنه حاث سير بناء على أقوال السائق الفلسطيني لكنها
قالت أنها تبحث بكل الاتجاهات.
صباح الخميس
غيرت شرطة الاحتلال كلامها وقالت أن ما حصل هو عملية مقاومة (على الأرجح)، فما
الذي حصل حتى تغير شرطة الاحتلال أقوالها؟ وكيف استطاعت أن تميز بين حادث سير
وعملية مقاومة؟
بداية يجب
التأكيد على عدة أمور:
أولًا: الاحتلال دقيق إلى حد كبير في
تحقيقاته، لأنه معني أن يصل إلى المقاوم وأن ينتقم منه ويعاقبه، وليس مثل أمن
الدول العربية المستعد لتلفيق التهمة لأي شخص حتى يقال أنهم أنجزوا وانتقموا.
وفلسفة الاحتلال تقوم على أنه إذا عوقب شخص غير المقاوم، فالمقاوم سيبقى طليقًا
ينفذ عمليات جديدة، ولهذا نجد أن الأنظمة العربية (مصر وسوريا مثلًا) رغم وحشيتها
واعتقالاتها العشوائية عاجزة عن وقف الثورات أو المقاومة ضدها، بينما الاحتلال
أكثر نجاعة بمحاربة المقاومة.
ثانيًا: لا معلومات كثيرة لدينا حول هذه
العملية سوى ما يفرج عنه الاحتلال، وهي معلومات شحيحة، لذا أغلب ما سأكتبه هو
توقعات لما يحصل في أروقة أجهزة أمن الاحتلال (الشرطة والشاباك).
ثالثًا: هذه العملية بالذات أمورها ملتبسة
لأنها اقتصرت على عملية صدم واحدة ثم تعطلت السيارة، بينما العمليات الأخرى كان
المنفذ يكمل طريقه ليقتل ويصيب آخرين أو يترجل من السيارة ليطعن ويهاجم.
يبدأ
المحققون باستجواب الشاب يسألونه عن دوافعه وماذا حصل وبالتفصيل الممل، ومن الواضح
أن الشاب في هذه العملية أنكر وقال أنه حادث سير، وهنا يبدأ عمل المحقق.
سيسأله
المحقق كيف حصل الحادث، وسيعيد طرح السؤال بأكثر من صيغة وأكثر من مرة، حتى يكتشف
أي تناقضات في رواية الشاب، وربما لاحظ هذا الأمر جميع من خضع للاستجواب لدى
المخابرات (سواء الاحتلال أو أي مخابرات في الدنيا).
فالمحققون
يعيدون طرح الأسئلة وكثير من الناس يظنون أنهم أغبياء واستيعابهم بطيء، لكن هذا
أمر مقصود، لأن المحقق يعتمد على حقيقة وهي أن الكاذب لا يستطيع أن يؤلف رواية متماسكة
لما حصل؛ سيرتبك وسيغير أقواله أكثر من مرة وسيعجز عن الإجابة عن أسئلة بديهية.
مثلًا:
سيقولون "له كيف حصل الحادث؟"،
سيرد "الأرض مبتلة وفقدت السيطرة على المقود"،
سيجيبه المحقق "لماذا لم تضغط على الفرامل؟"،
يجيب "لقد ضغطت عليها لكن يبدو أنها معطلة لم تعمل"،
وهنا يرد عليه المحقق "كاذب لقد فحصنا الفرامل وهي تعمل 100%"، ولا بد
من التأكيد أنه ليس شرطًا أن يكون كلام المحقق صحيح، وعلى الأغلب المحقق لا يعلم
إن كانت الفرامل فحصت أم لا، لكنه يكذّب الشاب حتى يربكه.
فلو كان
الشاب صادقًا سيصر على كلامه لكن لو كان كاذبًا سيرتبك، وربما ينهار ويعترف بأنها
عملية، وربما يغير القصة ويخترع سببًا آخر.
هذا
الأسلوب بالتحقيق يمكنكم الاستفادة منه بحياتكم العادية، فمن يروي لكم قصة أسألوه
عن تفاصيلها وتحققوا من التفاصيل عبر تكرار السؤال عن أحداث معينة بأكثر من طريقة،
إن كان يغير كلامه فهذا يعني أحد أمرين: إما أنه يكذب أو أنه شخص غير دقيق لا يعرف
كل شيء لكن يخلط ما يتوقعه بما يعلمه.
وخلال
الاستجواب يجمع المحققون معلومات عن الشاب، فمثلًا حسب قول شرطة الاحتلال هو مؤيد
لحماس، فيبدأون بالضغط عليه من هذه الناحية ويقولون له "إنك فعلتها لأنك من
حماس" و"من الذي جندك؟ ومن الذي تعرفه من حماس؟"
في حال
استمر بالإنكار ينتقلون معه للمرحلة التالية وهي إرساله إلى غرف العصافير، لكي
يعملوا على استدراجه بالكلام لعله يعترف بما حصل فعلًا، وفي كثير من الأحيان ينجح
هذا الأسلوب معهم.
على سبيل
المثال عملية دهس الجنود في مخيم العروب قبل أشهر، قال المنفذ أنه حادث سير ولكي
يدلل على صدقه قام بتسليم نفسه للاحتلال، لكن يبدو أنه تم إرساله إلى غرف العصافير
وهناك اعترف بأنها عملية وبأنه ينتمي تنظيميًا لحماس وغير ذلك.
وفي حال
أصر على أنه حادث أثناء وجوده لدى العصافير، فيضع المحققون احتمالين: إما أنه صادق
فعلًا، وإما أنه ممثل بارع.
وهنا يأتي
دور الأدلة المعملية، مثل فيديو أشرطة المراقبة (حسب كلام الشرطة فلديهم شريط
فيديو يثبت أنها عملية)، وفحص مكان الحادث ومسار الاصطدام وهل يعقل أنه فقد
السيطرة ولماذا قفز على الرصيف، ويتم فحص الفرامل وغيرها من الأمور.
وهذا الفحص
قد يبرؤه مثل أن يجدوا فعلًا أن الفرامل معطلة، وقد "يدينه" ويقول
الخبير أن السيارة لا يمكن أن تسير هكذا إلا بإرادة السائق، وقد تبقى الأمور
معلقة.
وفي حال لم
يعترف الشاب فيبقى هنالك مجال للمحامي لكي يناور بين الأدلة المختلفة وذلك بحسب
قوة تلك الأدلة، وبكل الأحوال سيحكم عليه بالسجن إن لم يكن بوصفه منفذ عملية
فسيكون بتهمة القيادة بإهمال لكن ستفرق مدة السجن: فلو كانت عملية سيسجن بالمؤبد
ولو كان إهمال بالقيادة سيسجن لعشر سنوات (أو أقل أو أكثر).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق