رسمت لنا الكاتبة الأمريكية شخصية صاحب الظل الطويل، وهو اللقب الذي أطلقته بطلة روايتها جودي أبوت على رجل غامض كان يرسل لها الإحسان كي تكمل دراستها بحكم كونها نشأت يتيمة الأبوين في ملجأ ولا معيل لها يأخذ بيدها.
كان شرط هذا المحسن الغامض أن تكتب له رسالة مرة كل شهر، دون أن يرد عليها ودون أن تعرف عنه شيء (سوى أنها مرة رأت ظله الطويل في الميتم) لكن بالنسبة لها كان صاحب الظل الطويل أملها الوحيد للخروج من حياة البؤس وكان شعاع الأمل الذي سيفتح أمامها الحياة.
أما صديقنا صاحب الظل الثقيل فهو على العكس من ذلك تماماً: هبط علينا صدفة بعد حادثة لم يكن له يد فيها، مات الملك عاش الملك، وفجأة أصبح صاحب الظل الثقيل الملك المتوج على البلاد والعباد، وأصبح الجميع يستظل بظله الثقيل، وعاماً تلو عام وظله يزداد ثقلاً، والبلاد والعباد يئنون من وطأة هذا الضيف الثقيل الذي جاءهم دون دعوةٍ منهم، وامتد ظله فحجب الشمس وحجب الأمل وقتل الحياة ونشر البؤس.
صديقنا صاحب الظل الثقيل اختزل في عهده الميمون طغيان ثلاث أجيال من ملوك فرنسا المستبدين:
من لويس الرابع عشر الذي لغى الدولة وقال كلمته المشهورة "أنا الدولة والدولة أنا"، وصاحب الظل الثقيل لغى البلد ولغى الأمة وأصبح هو الحُكم والبلد والأمة.
إلى لويس الخامس عشر الذي بدد ثروة البلاد والعباد على ملذاته وشهواته، وعندما سئل عن ذلك فقال كلمته المشهورة "أنا، وليأت من بعدي الطوفان"، وصاحب الظل الثقيل ليس أقل منه شأناً فقال لنا: "إما أن أبقى جالساً على صدوركم وإما الفوضى والدمار".
وانتهاء بلويس السادس عشر الذي بددت زوجته ماري أنطوانيت الأموال على المجوهرات والثياب، فيما شعبها يئن من الجوع، وعندما قيل لها: "الناس لا يجدون الخبز ليأكلوه"، قالت لهم كلمتها المشهورة: "فليأكلوا البسكويت"، فقد كانت تعيش في عالمٍ غير عالمهم، وهمومها غير همومهم، وصاحب الظل الثقيل لم يكن بأفضل منها حالاً فهو لا يسمع الهتافات المليونية التي تطالب بإسقاطه، وهو لا يعيش عصر الفضائيات والانترنت، هو يعيش في زمن آخر وفي كوكب آخر، لذا يصر على تخييم ظله الثقيل علينا وأن يستمر بذبحنا أحياءً كل يوم.
ثار الناس في فرنسا ثورتهم المشهورة وأطاحوا بالملكية وأطاحوا بالإقطاع وأطاحوا برأس الملك وأطاحوا برأس ماري أنطونيت، واليوم الناس تثور على صاحب الظل الثقيل لكنه لا يتعلم الدرس ولا يقبل أن يحاول تعلم الدرس، وهذا ليس بالأمر الغريب من صاحب ظل ثقيل.
الناس ثارت عليه وتريد رحيله، ورحيل الأقطاعيين الجدد، ورحيل ملكيته المقيتة، ورحيل ظله الثقيل، لكن صاحبنا عنيد ولا يهمه إن عانى ثمانون مليوناً من عناده وكبادوا الأمرين، ولو كانوا ثمانمئة مليون لم يكن ليهز في رأسه شعرة، فهو الدولة والدولة هو، بينما هم مجرد حفنة من أصحاب الأجندات خارجية (حتى لو كانوا مئة مليونٍ)، وليدفعوا ثمن خيارهم غالياً وليأتيهم الطوفان لكن صاحب الظل الثقيل باقٍ.
آخر ما حرر: صاحب الظل الثقيل ربما يفكر بالرحيل، لكنه يخاف علينا من غياب ظله، يريد أن يطمئن أن ظله الثقيل سيبقى جاثماً على صدورنا، يا صاحب الظل الثقيل لسنا أيتاماً ننتظر منك الإحسان، يا صاحب الظل الثقيل صحيح أننا كرهناك ونريدك أن ترحل لكننا نكره ظلك أكثر منك، ارحل أنت وظلك، ارحل لا نريدك، ارحل لا نحبك، ارحل يا ثقيل وخذ ظلك الثقيل، ألا تستوعب يا صاحب الظل الثقيل؟ ألا تعلم يا صاحب الظل الثقيل أنه على هذه الأرض بشر غيرك؟ يا صاحب الظل الثقيل متى ترحل ويرحل ظلك؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق