تابعنا جميعاً التلون والنفاق الأمريكي تجاه الثورة المصرية، والتي ختمها أوباما بإطراء شديد للثورة بعد سقوط مبارك (مثلما فعل قبل ذلك عند سقوط بن علي)، وقال: "لقد ألهمنا الشعب المصري"، و"الشعب المصري لن يقبل بأقل من الديموقراطية الحقيقية.. مصر تغيرت للأبد".
وإن كانت الانتهازية الأمريكية واضحة وضوح الشمس بعد ثلاثين عاماً من الدعم المطلق لحكم مبارك والمساعدات المالية والعسكرية ومعدات وأسباب القمع والتنكيل، بل والضغط على مبارك من أجل إحكام حبل الحصار على رقبة قطاع غزة.
إلا أن الموقف الأمريكي وتلونه كان أكثر تعقيداً من مجرد فرصة انتهازية ومحاولة فاشلة لاسترضاء الشعب المصري، ومثلما علمتنا ثورتي مصر وتونس أن الطريق إلى الحرية والإصلاح لا يكون إلا من الداخل وبأيدي أبناء الشعب في وقت فشلت فيه الديموقراطية الأمريكية بالعراق فشلاً ذريعاً، فإننا نتعلم منهما أيضاً أن الموقف الأمريكي تجاه قضايانا يمكن تشكيله بإرادة عربية.
لأول مرة منذ عقود طويلة وقف اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة عاجزاً عن إملاء مصالح الكيان الصهيوني على الإدارة الأمريكية، وكان واضحاً أن ما يشكل المواقف الأمريكية هو تطورات الأوضاع في ميدان التحرير فكلما بدت الأمور أكثر اشتعالاً مالت الإدارة الأمريكية إلى جانب الثورة، وعندما بدت الأمور في لحظة من اللحظات أن النظام استعاد عافيته بدأ الناطقون باسم الخارجية الأمريكية يتكلمون عن ضرورة بقاء مبارك في الحكم حتى نهاية الفترة الانتقالية.
طالب الكيان الصهيوني بعدم الضغط على مبارك ودعمه، وانتقد أكثر من مسؤول صهيوني توجهات الإدارة الأمريكية التي رأت التكيف مع الأمر الواقع وقبول حقيقة أن قرار رحيل مبارك أو بقائه هو أكبر من طاقتها أو قدرتها، وكان هنالك في الإدارة الأمريكية متعاطفون مع الكيان الصهيوني وحاولوا فرض التوجه الصهيوني الداعم بلا حدود لمبارك ونظامه البائد، وربما هذا يفسر التردد الأمريكي والمواقف العائمة للإدارة الأمريكية والتي لم يحسمها سوى الموقف في ميدان التحرير.
حاول الأمريكان ضمان أن يرث مبارك رئيس المخابرات العامة عمر سليمان (الحليف الأوثق للصهاينة في النظام المصري)، إلا أن سلسلة أخطاء ارتكبها مبارك وارتكبها سليمان قضت على هذا المخطط، وخاصة تصريح عمر سليمان بأن الشعب المصري ليس مهيئاً للديموقراطية، والانتقاد الأمريكي لتصريحاته هذه كان من منطلق الحرص على بقاء عمر سليمان وعلى بقاء النظام البائد.
يحاول الصهاينة مواساة أنفسهم بتأكيد المجلس العسكري على احترام المعاهدات والاتفاقيات، لكن هذا لا يعني شيء، وهو التزام لا يتجاوز المرحلة الانتقالية، وهو التزام لا يغير من حقيقة أن عصر ما بعد مبارك لا يبشر الصهاينة بأي خير، لتسقط نظرية كان يرددها الكثيرون وهي "أمريكا لن تسمح بسقوط مبارك وتجربة تونس لن تتكرر في مصر"، حيث كان المحللون الغربيون والصهاينة في بداية الثورة يتكلمون عن ضوء أخضر من أمريكا تم إعطاءه لنظام مبارك من أجل استخدام الجيش لقمع الثورة، وحاول عمر سليمان استخدام هذه الورقة في يومه الأخير كنائب لرئيس الجمهورية.
لكن رياح الجيش المصري لم تأت بما تشتهيه السفن الصهيوينة والأمريكية، وكان موقف صغار الضباط والجنود الرافض لسفك دماء إخوانهم المتظاهرين هو ما حسم موقف قيادة الجيش وأفشل مخطط حمامات الدماء، وأثبت فشل نظرية "أمريكا لن تسمح"، فقد بدا واضحاً للجميع أن أمريكا لم تكن تملك من أمرها شيئاً سوى متابعة تطورات الأوضاع وإصدار تصريحات تعكس ميزان القوى على الأرض.
بعد سنوات طويلة من إغراقنا بنظريات المؤامرة ونظرية اللوبي الأمريكي الذي يمنع أي موقف إيجابي أمريكي تجاه الأمة العربية والإسلامية والذي يطيح بأي مسؤول أمريكي يساوم على المصلحة الصهيونية، تتهاوى أمامنا اليوم هذه النظريات، لتظهر لنا حقيقة جلية وهي أن ما كان يدفع الأمريكان باتجاه الدعم اللامحدود للكيان الصهيوني هو ضعف العرب وتهافت الأنظمة العربية.
ولو تتبعنا تاريخ العلاقة الأمريكية الصهيونية لوجدنا شواهد تدعم هذا الشيء فعند الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني الأمريكي عام 1948م سارع الرئيس الأمريكي ترومان للاعتراف بالكيان الصهيوني، فيما عارض ذلك وبشدة وزير خارجيته جورج مارشال والذي خاف أن يؤثر ذلك الاعتراف على علاقة الولايات المتحدة مع العالم العربي، لكن عندما رأى الأمريكان أن ذلك لم يؤثر على علاقتهم بالعالم العربي فمن الطبيعي أن يستمروا بدعم الكيان.
وفي الخمسينات اتخذ الرئيس الأمريكي أيزنهاور عدة مواقف في وجه الكيان الصهيوني، أبرزها إجبار الكيان عن الانسحاب من سيناء بعد العدوان الثلاثي عام 1956م، وذلك في إطار جهوده لحشد حلف عربي ضد الاتحاد السوفياتي، لكنه لم ينجح في إقناع الأنظمة العربية المعادية للغرب (وعلى رأسها نظام جمال عبد الناصر) في حين كان يضمن ولاء الأنظمة العربية المتحالفة معه بغض النظر عن موقفه تجاه الكيان الصهيوني، مما أدى لفشل هذه الإستراتيجية.
ودخلت العلاقة الصهيونية الأمريكية منعطفاً هاماً بعد حرب عام 1967م عندما أثبت الصهاينة أنهم يمثلون ذراعاً عسكرياً ضارباً يمكن للأمريكان الاعتماد عليها، ومنذ ذلك الوقت وعلاقات الكيان الصهيوني مع الأمريكان تزداد قوة، فيما توجهت الأنظمة العربية إلى المزيد من الخضوع للأمريكان بعد قرار السادات الارتماء في حضنهم عندما قال أن 99% من أوراق الحل بيد أمريكا.
وأشار الباحثان الأمريكيان جون ميرشمير وستيفن والت (من جامعتي شيكاغو وهارفرد العريقتين) في كتابهما الشهير "اللوبي الصهيوني والسياسة الخارجية الأمريكية" والذي نشر عام 2007م إلى أن اللوبي الصهيوني في أمريكا يحرف مسار السياسة الخارجية الأمريكية بعيداً عن مصالح الولايات المتحدة وأن مصالح الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ليست متطابقة، وأنه على الإدارة الأمريكية أن تكف عن التصرف وكأنها مصالح متطابقة.
وقوبلت نظريتهما في وقتها بمزيج من السخرية والانتقاد الحاد، وكيف لا تقابل بالسخرية والأنظمة العربية كانت تتسابق لإرضاء الكيان الصهيوني من أجل كسب الرضا الأمريكي؟ وكيف لا تقابل بالسخرية وهنالك من العرب من يقول لها يجب تشديد الحصار على قطاع غزة ويجب محاربة حركة حماس لأنها تتبنى الإرهاب وترفض الاعتراف بالكيان الصهيوني؟ وكيف يقبل هذه النظرية صانع القرار الأمريكي وهو يسمع كلمات التزلف والنفاق من الزعماء والقادة العرب والذين يصرون على أن شعوبهم محبة للسلام وأن من يعادي الكيان الصهيوني هم "قلة من المتعصبين الأصوليين الإسلاميين أصحاب الأجندات الإيرانية"؟
واليوم أثبتت ثورة الشعب المصري أن 100% من أوراق الحل بأيدينا، وأن أمريكا بعظمها وجبروتها لا تستطيع إلا أن تخضع لإرادة الشعوب العربية، واليوم ثبتت صحة نظرية ميرشمير ووالت بأن المصالح الأمريكية والصهيونية يجب أن تفترق عند لحظة معينة، وهذه اللحظة كانت عندما استفاق العرب وأدركوا قوتهم الحقيقية، وبالتالي فسر دعم أوباما للثورة المصرية هو وبكل بساطة أننا نستطيع أن نرسم مصيرنا بأيدينا وأننا وحدنا من نحدد مستقبلنا وما على العالم إلا الخضوع لنا. (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق