أولًا: لا أحد
يعرف الأسباب الحقيقية لقيام القسام بإعدام أحد عناصره، وما أعلنه القسام يبقى
غامضًا ولا يوضح الحقيقة، وما يتم تناقله على الفيسبوك والإعلام (وبالأخص قصة أن
الشاب هو جاسوس أبلغ عن مكان محمد ضيف) هو كلام فارغ لا أصل له ولا يؤخذ به.
بالتالي فكلامي لن يكون مفيدًا لمن يبحث عن معلومات أو خلفية الموضوع لكني سأحاول الكلام بشكل عام، حتى يكون لدينا ضوابط نستخدمها في مثل هذه المواقف.
ثانيًا: من معرفتنا
لحركة حماس وإطلاعنا على طريقة عملها وتركيبتها الداخلية، فلا يوجد شيء اسمه إعدام
بسبب صراعات داخلية، نعم ربما يتم إقصاء شخص من موقعه أو فصله من الحركة بسبب
صراعات داخلية وقد يكون مظلومًا في ذلك، لكن لم يحصل أن وصلت الأمور بالحركة أن
تعدم شخص لهذا السبب أو شيء قريب من ذلك.
بالتالي فحماس لم تعدم الشاب من فراغ وهنالك شيء ما، صحيح أننا نجهله لكنه لم يأت من
فراغ أو لمجرد خلاف بالرأي، فليس هكذا تعمل الحركة.
وفي المقابل هل الفعل الذي ارتكبه يستحق الإعدام؟ وهل الوضع العام للحركة
والمقاومة عمومًا يتحمل إعدام مثل هذا الشخص؟ هل هنالك تجاوز في العقوبة التي
يستحقها؟ كلها أسئلة مطروحة، ولا نملك الإجابة عنها، ولا ننزه حماس عن الوقوع
بمثلها.
خاصة وأنها هنالك أسبقيات لأخطاء في الحركة، وتحديدًا جهازها الأمني وأشهرها حقبة
الهوس الأمني في سجني النقب ومجدو (في الأعوام 1995م - 1997م) والذي كان سببه
أخطاء الجهاز الأمني التابع لأسرى حماس، وما زالت تداعيات تلك الحقبة السلبية إلى
يومنا هذا.
ثالثًا: لتلك
الأسباب فإننا لا نستطيع تحديد من هو المسؤول عن الوصول إلى هذه المرحلة، والأكيد
أن ما حصل لا يسر وليس في صالح حماس ولا مشروع المقاومة، بغض النظر عن التفاصيل،
ولا أرى مبررًا لفرح بعض "أنصار" حماس بالموضوع على اعتبار أنه دليل
"نزاهة" الحركة.
الحركة ليست بحاجة لإعدام أشخاص من بين صفوفها لتثبت للعالم نزاهتها، ومن يفكر
بهذه الطريقة فليراجع نفسه جيدًا.
رابعًا: بشكل
عام فإن المحاسبة مطلوبة لكن في وضع الجماعات المقاومة، فالشفافية أمر غير ممكن
غالبًا وهنالك أمور لا يمكن الكشف عنها، والمحاسبة في ظل غياب الشفافية تبقى موضع
تساؤل وتشكيك، فعلى سبيل المثال لو أعلنت حماس سبب إعدامه غدًا، ونشرت اعترافاته
مصورةً، فهل سينهي ذلك الجدل؟
عائلته لن تقبل وستقول أنه تم انتزاع الاعترافات تحت التعذيب وسندخل بدوامة جديدة
من القيل والقال والإشاعات.
خامسًا: في ظل
الأجواء الثورية هنالك شغف لدى عامة الناس من أجل معاقبة العملاء والانتقام منهم،
يفوق حماسهم لقتال العدو كما تصل الأمور في الكثير من الأحيان (ولا أتكلم فقط عن
القضية الفلسطينية) إلى الخلط بين الأخطاء غير المقصودة وبين العمالة (انظروا على
سبيل المثال من يخون مرسي بسبب "أخطائه").
وهذه العقلية والثقافة تضخم من أي عملية محاسبة تحت شبهة العمالة، وتحتفل بها
كأنها نصر مبين بل وتطالب بعقوبات مغلظة قد لا يستحقها الشخص، وأكثر من ذلك نجد
هوسًا بتوزيع الاتهامات بالعمالة بسبب أخطاء ترتكب، وأحيانًا بسبب الاختلاف
بالاجتهاد!
سادسًا: من
التجربة فالتوسع بملاحقة العملاء أو المحاسبة الداخلية عمومًا هو مدخل شر يجب
الاحتراس منه، يوقع التنظيم الثوري أو حتى الثورة نفسها في دوامة لا تنتهي من
التصفيات (الجسدية والمعنوية) والملاحقات والتخوين، وفي لحظة من اللحظات ينسى الكل
البوصلة الحقيقية وينشغلوا ببعضهم البعض.
وما حصل في سوريا من تصفية لتنظيمات بأكملها تحت مسمى العمالة بما أضعف الثوار
بشكل عام وجعلهم فريسة سهلة لروسيا هو أقوى دليل على القاع الذي يمكن أن تنحدر
إليه الأمور تحت مسمى "المحاسبة الداخلية".
سابعًا: والأخطر
مما سبق هو البلبلة والجو العام الذي تخلقه التصفيات والإعدامات والمحاسبات بشكل
عام، فالكل يصبح يشك بالكل والكثيرين سيرتدعون عن العمل المقاوم خوفًا من أن يكونوا
عرضة للاتهام يومًا ما.
انظروا البلبلة التي أحدثتها حادثة إعدام الشاب في غزة، كم أثرت وستؤثر على حماس
وعلى المقاومة، فحتى لو كان يستحق الموت فالسؤال المطروح، هل كانت فوائد الإعدام
تفوق الثمن الذي دفعته المقاومة؟ لا أملك الإجابة لكنه سؤال يستحق التفكير به.
فهل يستحق ردع المنحرفين أن يفتح الباب لإعلام أذناب الاحتلال ليطلق الشائعات التي
تثبط المعنويات؟ لقد وصلت الأمور بهذا الإعلام لأن يستغل شهداء الإعداد ويطلق
الشائعات بأنهم قتلوا بسبب "العمالة" أو بسبب الخلافات الداخلية.
الشيخ أحمد ياسين أصدر بيانًا وهو في السجن بالانتفاضة الأولى، يطلب وقف إعدام
العملاء لأن وتيرة الإعدامات وصلت حدًا دفعت المجتمع للتشكيك بجدوى الانتفاضة وأصبح
الناس يشكون ببعضهم البعض، واكتسبت الانتفاضة سمعة سيئة، والسلطة اليوم عندما تريد
ممارسة دور التخذيل عن الانخراط بالانتفاضة تذكر الناس بما تسميه
"الفوضى" التي سادت في الانتفاضة الأولى.
ثامنًا:
الموازنة بين المفاسد والمصالح وتقديم الأولويات مهم جدًا، ومثلما هو ضروري ردع
العملاء والمنفلتين وضبط الصف الداخلي، فمن الضروري أيضًا إشاعة الطمأنينة في صف
المقاومة، وتقديم محاربة العدو الأصلي على ملاحقة العملاء والطابور الخامس.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فرغم أن المنافقين أشد من الكفار
في عدة نواحي إلا أنه لم يحاربهم قط ولم يمارس التصفيات الداخلية، حتى لا يقال
"أن محمدًا يقتل أصحابه".
وأي عقوبة لإنسان بريء أو تشدد في محاسبة مذنب ومعاقبته بأكثر مما يستحق، لهو أكثر
سوءًا من العفو عن ألف مجرم ومخطئ.
تاسعًا: ومن أجل
تحقيق الموازنة لا توجد قاعدة عامة نسير عليها، إنما يسدد المرء ويقارب قدر
الإمكان، والمهم في هذا الموقف هو عدم ترك الأجهزة الأمنية طليقة اليد ويجب
محاسبتها والشد عليها، فأحيانًا الإنجراف والحماسة تدفع القائمين عليها لارتكاب
أخطاء، ولا أحد معصوم من ذلك.
هناك تعليقان (2):
"اعترض البعض على قتل المقاومة لعامل فلسطيني كان يعمل مع مقاول لصالح جيش الاحتلال في إصلاح الجدار المحيط بقطاع غزة"، وهأنت تعترض على "التوسع بملاحقة العملاء". ألم يكن قتل ذلك العامل توسعا؟ أم أن الخيانة وجهة نظر؟
العامل كان ضمن جنود الاحتلال والمستهدف كان الجنود، لذا المقاومة لا تلام على ذلك.
أما "التوسع بملاحقة العملاء" فهي الملاحقة على الشبهة والهوس الأمني بمختلف أشكاله، ومن كنت تقدر على تأديبه أو مراقبته فهذا أفضل من قتله إلا إن كان لا مناص من قتله بسبب ضرره.
إرسال تعليق