"هذه أرض مقدسة ما بيظل فيها شيء مخبا" هذه جملة سمعها الكثير من المعتقلين الفلسطينيين من محققي جهاز الأمن الداخلي الصهيوني (الشاباك)، في محاولة لإقناعهم بأن كل شيء مكشوف وأنه لا مجال للإنكار وإخفاء نشاطاتهم في مقاومة الاحتلال، لكن يبدو أن رجال الشاباك لم يعطوا هذا الدرس لزملائهم في جهاز الموساد.
أو ربما ظن رجال الموساد أن قدسية الأرض هي قدسية جغرافية تتعلق بما يحصل على أرض فلسطين، لكن سلسلة إخفاقات الموساد ابتداء من فشل محاولة اغتيال خالد مشعل قبل 12 عاماً، ومروراً بكشف محاولة التجسس على مسؤول بحزب الله في سويسرا قبل بضع سنوات، واعتقال خلايا الموساد في لبنان العام الماضي، وانتهاء بالفضيحة التي تتكشف فصولها بخصوص استخدام الموساد جوازات سفر أوروبية "لمواطنين" صهاينة في عملية اغتيال الشهيد محمود المبحوح، كلها حوادث تقول للموساد أن قدسية الأرض تمتد لتشمل أبناء الأرض ومن يحمل السلاح جهاداً لتحرير الأرض المقدسة.
ومثلما كانت الكاميرا البطل الذي لا يعرف الكذب في فضيحة رفيق الحسيني، فهي أيضاً بطل التحقيقات بمقتل المبحوح، ومثلما حصل في قضية رفيق الحسيني حيث حاولت السلطة الإنكار والتنصل إلا أن مصداقية الكاميرا كانت قوية كطوفان تسونامي حطم كل أسوار الأكاذيب والمراوغات والخداع، فإننا نرى الأمر يتكرر اليوم مع آخر فضائح الموساد، تجاهل فإنكار فاعتراف (كرهاً وليس اختياراً).
صحيح أن مجريات التحقيق لحد الآن لم تكشف عن كافة تفاصيل الجريمة، وما زالت هنالك علامات استفهام عديدة، وصحيح أن القتلة لن يسلمهم الكيان ولن ينالوا عقابهم على الأرجح، وصحيح أن القتلة استخدموا جوازات سفر أشخاص آخرين لتبقى شخصيتهم الحقيقية طي الكتمان، لكن لأول مرة بتاريخ عمليات القتل التي نفذها الموساد ضد المقاومين الفلسطينيين خارج فلسطين، تكون هنالك أدلة حاسمة وقاطعة على تورط الكيان الصهيوني الفعلي بعملية اغتيال، فطوال سنوات كان الموساد ينفذ الجريمة تاركاً الناس في تخبط عبر الإبقاء على الغموض المريب.
الكاميرات صورت كل لحظة من لحظات تتبع الشهيد، ولحظات اقتحام الغرفة لتنفيذ الجريمة، ولحظات الخروج، وبواسطة التقنيات المتطورة تمكنت شرطة الإمارات من تحديد صور القتلة، ومن خلال سجلات المسافرين استطاعت تحديد أسماء وجوازات السفر التي استخدمها القتلة، ولا يوجد عاقل في الدنيا يعتقد أن وجود 7 صهاينة من بين الأسماء المتهمة هي مجرد صدفة أو ضربة حظ أو مؤامرة إماراتية لتوريط "مواطنين" صهاينة.
فجوازات السفر نفسها لا يوجد فيها ما يدل على ديانة أصحابها أو إن كانوا زاروا الكيان الصهيوني فضلاً عن معرفة كونهم مقيمين في الكيان منذ سنوات، فكيف استطاعت شرطة دبي تحديد أن هؤلاء الصهاينة يملكون جوازات سفر بريطانية وأيرلندية وأنهم هم القتلة؟ هل استعانت بمنجمين؟ هنا يأتي دور بطل القضية الكاميرا.
وفي حين أن هنالك عمليات للموساد تمت قبل ثلاثين عاماً وأكثر ما زالت مقيدة ضد مجهول، ففي هذه الجريمة لم تمض بضعة أسابيع حتى بدأت الأدلة تتراكم بحق الكيان الصهيوني وتورطه في العملية، وهنا نأتي إلى البطل الذي لا يعرف الكذب: كاميرات التصوير، ولنلاحظ ما فضحته لنا من حقائق:
1- كذبت الكاميرا كل المزاعم بحق الشهيد من أنه اغتيل نتيجة خلافات داخلية، أو أن صوت امرأة أغراه ليفتح لها الباب ويلقى حفته. فالكاميرا كشفت أن القتلة قاموا بفك برمجة باب الغرفة ودخلوا ليكمنوا للشهيد الذي لم يكن موجوداً في الغرفة أصلاً لدى اقتحامها، والكاميرا كشفت لنا أن القتلة قدموا من الكيان الصهيوني، لقد افتضحت كل الروايات التي أرادت أن تغتال الشهيد معنوياً بعد اغتياله جسدياً.
2- لعل الصهاينة نجحوا في الانتقام من عدو قديم وبينوا للعرب أن يدهم طويلة وتصل لأي مكان، لكن الأمور تطورت تجاه أزمة ثقة مع الدول الأوروبية التي لا تقبل تعريض حياة مواطنيها للخطر من خلال استخدام الكيان الصهيوني لجوازات سفر بلدانهم، وخاصة أنها ليست أول مرة يستخدم الموساد لجوازات سفر غربية في عملياته القذرة، فقد سبق وأن استخدم الموساد جوازات سفر بريطانيا مزورة، وحمل منفذو محاولة اغتيال مشعل جوازات سفر كندية، كما قبض عام 2004 على عملاء صهاينة حاولوا شراء جوازات سفر نيوزلندية مزورة.
3- تضاف هذه الأدلة على ما سبقها من أدلة دامغة على أن الكيان الصهيوني هو دولة مارقة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولن تسعفه مساحيق التجميل الإعلامية والحماية الأمريكية، فقوة الصورة وقوة الكاميرا أعلى بكثير من كل مساحيق التجميل.
4- تعطي هذه الحقائق المبرر لحماس أن تنتقم للمبحوح خارج الأرض الفلسطينية، فما دامت هذه الدول تسمح للكيان باستخدام جوازات سفرها لتنفيذ الجرائم، فهذا يعني أنها ارتضت لنفسها أن تكون طرفاً في الصراع، ولو كنت مكان قيادة حماس لنفذت عملية ضد السفارة الصهيونية في أحد هذه البلدان، فهي أظهرت لا مبالاة بالدم الفلسطيني، والكيان الصهيوني ارتضى لنفسه نقل المعركة للخارج، وهذه لعبة يستطيع الجميع لعبها.
5- لعل أم الفضائح في هذه الحالة هو موقف الكيان الصهيوني تجاه "مواطنيه"، فمن الواضح أن الموساد استخدم جوازات السفر دون علم أصحابها الحقيقيين، وهذا لم يكن ليتم بدون تعاون سلطة المطارات الصهيونية وأجهزة حكومية مختلفة، وفجأة وجد 7 "مواطنين" صهاينة أنفسهم مطلوبين للانتربول، ولن يستطيعوا مغادرة الكيان إلى أي مكان في العالم، لأنهم سيكونون مطلوبين للتحقيق.
فلطالما عرض الكيان نفسه على يهود العالم أنه الملاذ الآمن لهم، وإذا الصهاينة يكتشفون أنهم يستخدمهم غطاء لجرائمه وتعرض حياتهم الشخصية لخطر لا يمكن إصلاحه، وفي وقت يعاني الكيان من قلة القادمون الجدد من يهود العالم، لترسل هذه الفضيحة رسائل حاسمة ليهود العالم أن لا يأتوا للكيان، لأنهم قد يتحولوا إلى قتلة مطلوبين في كل دول العالم من دون أن يفعلوا شيئاً. ومن الأمور التي كان يهدف لها المبحوح وغيره من المقاومين تحقيقها هو وقف سيل الهجرة اليهودية إلى الكيان، كخطوة على طريق القضاء عليه، وها هو المبحوح يحقق ذلك من خلال موته وشهادته.
وقد طالب الكاتب في صحيفة هآرتس (أمير أورون) يوم أمس الأربعاء باستقالة رئيس الموساد، حتى لو تمكن من تسوية الأمور مع الدول الأوروبية، لأنه انتهك التزاماً تجاه "المواطنين" الصهاينة، حيث أن استخدام "هويات إسرائيليين حقيقيين وأحياء وأبرياء" في العملية هو انتهاك للقانون، على حد تعبيره.
بماذا كان يفكر الموساد عندما خطط لهذه الجريمة؟ ألم ينتبهوا إلى أن مطارات وفنادق دبي مليئة بكاميرات المراقبة؟ أم أنهم استهانوا بقدرات الأجهزة الأمنية العربية؟ أم أنها مؤامرة دولية لتوريط الكيان الصهيوني بالتي هي أحسن (كما يحاول بعض الصهاينة عبثاً إقناع أنفسهم)؟
هل المكاسب التي حققها الصهاينة من اغتيال المبحوح توازي الثمن الذي دفعوه وسيدفعوه؟ ما زلنا في البداية وواضح أن الثمن مرتفع وهو مرشح للارتفاع أكثر. يقولون أنه لا توجد جريمة كاملة، ويقول محققوا الشاباك "هذه أرض مقدسة كل شيء ينكشف فيها"، فهل كان يظن الموساد أنه فوق ارتكاب الأخطاء؟
اخترع الغرب كاميرات المراقبة والأنظمة الأمنية في المطارات للتحكم بمن يمر ويأتي ويذهب، والصهاينة برعوا باستخدام أدوات المراقبة والتتبع، لكنهم كانوا من السذاجة بمكان في أن يقعوا ضحية لها وبشكل مفضوح، قتلهم غرورهم وعجرفتهم، وتبقى الكاميرا البطل الذي لا يعرف الكذب، والبطل الذي يكشف المجرمين وينتقم للمظلومين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق