"ويشار إلى أن القاتل عميل"، بهذه الكلمات وصفت المذيعة في "صوت إسرائيل" عملية قتل ضابط جهاز الشاباك الصهيوني حاييم نحماني على يد الشهيد القسامي ماهر أبو سرور، في الأيام الأولى من الشهر الأول لعام 1993م وبعد مرور أقل من أسبوعين على إبعاد قيادة حماس إلى مرج الزهور.
قام الشهيد ماهر أبو سرور بتضليل ضابط المخابرات وأوهمه استعداده للعمل مع جهاز الشاباك، وتم الاتفاق على أن يلتقيا بأحد الشقق السكنية في القدس الغربية، عندما وصل ضابط المخابرات كان الشهيد قد أعد له كميناً بالتنسيق مع كتائب القسام، وقتله مستخدماً مطرقة وأدوات حادة واستولى على سلاحه وأوراق العمل التي كانت معه.
تمكن الشهيد من الانسحاب ولم يدر جهاز الشاباك بمقتل الضابط إلا بعد مرور ساعات على الحادثة، كانت ضربة قاصمة للشاباك، ويبدو أنه في لحظة غضب قرر شخص ما من الشاباك أن يتم الإعلان أن الشهيد كان عميلاً له (ربما سعياً لتشويهه والإيحاء بأنه قام بهذا العمل لأسباب شخصية وليس وطنية) فما زالت الطريقة التي قرأت به المذيعة الخبر وكيف شددت على كلمة عميل عالقة بذهني حتى يومنا هذا، بعد مرور سبعة عشر عاماً على العملية.
وصف "صوت إسرائيل" لفلسطيني بأنه عميل ليس بالزلة ولا بالأمر العادي، فنشرات أخبارها يجب أن تمر على رقابة الشاباك والذي يقوم بغربلتها، "العميل" هي وصمة يطلقها الشعب الفلسطيني، وبالنسبة للفلسطيني أن يموت أهون عليه من أن يحمل مسمى عميل، أما الصهاينة وصوت إسرائيل فيستخدمون مصطلح "المتعاون"، ولم يجر أبداً أنهم وصفوا أحداً بأنه عميل، وحتى عندما يقتل المقاومون أحد عملائهم يقولون "قتل للاشتباه بتعاونه مع السلطات".
أول شيء يحرص عليه ضباط الشاباك لدى تجنيدهم للعملاء هو تقديم الضمانات والتأكيدات على أن العميل لن يكتشف ولن يدري بأمره أحد، ولطالما رفض الشاباك الكشف عن أسماء عملائه حتى لو كشفوا عن أنفسهم أو افتضح أمرهم، فهم لا يريدون كشف أساليب عملهم من ناحية ويريدون الحفاظ على ثقة العميل بهم أنهم لن يغدروا به أو يكشفوه.
لذا عندما يقول الشاباك أن فلان عميل له، فلا بد أن هنالك أمر جلل أهم من مصداقيته أمام عملائه، وما قام به الشهيد ماهر أبو سرور لم يكن صدمة فحسب، بل كان فاتحة لعمليات مشابهة ومماثلة فلحقه الشهيد عبد المنعم أبو حميد الذي نصب كميناً مع زملائه من القسام لضابط الشاباك الذي جاء للقائه بأحد شوارع رام الله فأمطره بوابل من النيران فقتله وأصاب سائق سيارته، كما شهدت انتفاضة الأقصى عدة عمليات لـ"عملاء" مفترضين فجروا أنفسهم وسط ضباط الشاباك.
الشهيد ماهر أبو سرور واصل عمله المقاوم ونفذ عدة عمليات قبل استشهاده في عملية التلة الفرنسية بنفس العام، وبالتالي فوصمة العمالة التي أراد الشاباك وبالتنسيق مع "صوت إسرائيل" بدت أقرب لمحاولة صبيانية وفشة خلق منها لمحاولة تشويه حقيقية.
لكن في حالة ابن الشيخ حسن يوسف فالأمر مختلف نوعاً ما، حيث قام بتأليف كتاب يعترف فيه بعلاقته بالشاباك وعمالته وتباهى بذلك، مع ذلك فتوقيت نشره وتبرع ضابط سابق في جهاز الشاباك للكلام وكشف أساليب عمل الجهاز يشير إلى أن الأمر يتعدى سبقاً صحفياً تريد الصحيفة تحقيقه، فضباط الشاباك لا يتكلمون للصحافة إلا بإذن حتى لو كانوا متقاعدين، والتقرير الصحفي يجب أن يمر على الرقابة العسكرية، والرقابة بكل تأكيد طلبت من جهاز الشاباك إبداء الرأي في التقرير وما جاء فيه، ما لم يكن الجهاز نفسه هو من يقف وراء الأمر برمته.
توقيت التقرير جاء ليخدم هدفاً صهيونياً واضحاً، فبعد فضيحة رفيق الحسيني وبالتزامن مع قضية اغتيال الشهيد محمود المبحوح، كان لا بد من فضيحة لحركة حماس، ليس إنقاذاً للسلطة لأنه مهما قيل فلن تنظف سمعة السلطة، بل لإيصال رسالة إلى الشعب الفلسطيني قيادتكم كلها ملوثة، وأنكم شعب لا يوجد فيه أحد نظيف، المطلوب هو بث اليأس والإحباط بين الناس، وصولاً للكفر بكل ما يمت للمبادئ والثوابت بصلة.
لكن الشيخ حسن يوسف قطع الطريق على الشاباك والصحيفة عندما لم ينف ما جاء واكتفى بتأكيد أن ابنه لم يكن يوماً عضواً عاملاً في حركة حماس، وكانت الحركة أذكى من السلطة عندما لم تحاول الدفاع عن سمعة مصعب وشرفه، كما دافعت السلطة عن شرف رفيق الحسيني، لقد وأدت الفضيحة أو على الأقل تم تحجيم أضرارها.
لكن ما حصل يجب أن ينبهنا إلى أمرين أساسيين:
1- هنالك أمر جلل دفع الشاباك للموافقة كي يتكلم أحد ضباطه السابقين بهذه العلنية والصراحة غير المعهودة، فهل تفاعلات قضية المبحوح أحرجت الكيان لهذه الدرجة؟ أم أن الشاباك رأى أن انهيار سمعة السلطة مع فضيحة الحسيني سيرفع أسهم حركة حماس، فلا بد بالتالي من تحرك عاجل لكي تنزل حماس، وعندها تقبع هي والسلطة في القاع، ليجرا معهما آمال الشعب الفلسطيني؟
2- يجب الحذر في التعامل مع ما يأتينا من الصحافة الصهيونية، مع ضرورة متابعة صحافة الكيان حتى نتعرف على أوضاعهم الداخلية، وحتى نأخذ فكرة عن المجتمع والدولة الصهيونية وعن مخططاتهم وأفكارهم وتصوراتهم، فمعرفة العدو هي خطوة هامة ومصيرية لكسب المعركة معه.
لكن من غير أن تكون صحافة العدو مصدر تعرفنا على أنفسنا، ولا أن تصبح مسرحاً لتبادل الفضائح بين أقطاب الساحة السياسية الفلسطينية. فالصحافة الصهيونية لها تصوراتها ورؤيتها للشعب الفلسطيني والعرب بشكل عام، ترانا مجموعات متناحرة، وترانا مجتمعات متخلفة شهوانية، وترى تسويق فضائحنا فرصة لفرض نفسها كحكم علينا وبيننا. يجب أن تكون قراءتنا لما تنشره الصحافة العبرية أكثر وعياً وإدراكاً لما يريدوه منا، هل توجد حقائق ينشروها؟ نعم هي موجودة لا شك، لكن لا نبلع ما يأتينا كما هو.
قد لا يكون ما كشفه مصعب أو الضابط المسؤول مهماً أو خطيراً أو حتى صحيحاً من الأصل، لكنه يدل على وجود أمر كبير دفع الكيان الصهيوني للمخاطرة بسمعته المخيفة والمرعبة التي بناها على الغموض الذي يلف أغلب عملياته، لننتبه جيداً فعدونا الكيان الصهيوني وليس فتح أو حماس، لنتذكر هذا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق