كان للتفوق التكنولوجي للغرب دوراً حاسماً في استعمار البلدان العربية والإسلامية، حيث استغل الأوروبيون تفوق قوتهم النارية والعسكرية لاحتلال العالم الجديد مما ساعد على قيام الثورة الصناعية، والتي ساهمت بمضاعفة قوتهم العسكرية بشكلٍ مكنهم من استعمار العالم الإسلامي خلال المئتي عام الماضية. وخلال هذه الفترة توسعت الفجوة التكنولوجية بيننا وبين الغرب.
وبعد احتلال بريطانيا لفلسطين قبل 93 عاماً عملت على التمهيد لقيام الكيان الصهيوني ومدته بأسباب القوة والتقدم التكنولوجي، وعندما اندلعت حرب عام 1948م كان ميزان التسلح يميل بشكل كبير لصالح الصهاينة مقابل الدول العربية مجتمعة سواء من حيث العدد أو العدة، وبعد قيام الكيان حرص (وبرعاية غربية) على تطوير قدراته التسلحية وتوسيع الفجوة التكنولوجية بينه وبين محيطه العربي، مما مكنه من المحافظة على انتصاراته طوال الفترة الماضية.
إلا أن هذه الفجوة العملاقة في التسلح والتكنولوجية يبدو أنها مهددة وهشة وذلك (وهنا المفارقة) مع تسارع وتيرة التطور التكنولوجي ودخولنا عصر ثورة الاتصالات وثورة المعلومات، فطوال سنوات كان واضحاً العجز عن اللحاق بالقدرات العسكرية الصهيونية، وبقي سلاح الجو الصهيوني حصن الكيان الحصين، فمهما تم تطوير أسلحة مضادة للطيران أو اقتناء طائرات متطورة إلا أن الكيان كان دوماً يحتفظ بالأفضلية، وبقي سلاح الجو عصياً على الانكسار.
التغيرات التي جرت في العام أو العامين الأخيرين هي تغيرات بسيطة في ميزان الصراع مع العدو الصهيوني، لكنها عظيمة في ميدان الصراع التكنولوجي، وتنبئ بقدرات كامنة على تقليص الهوة معه. وهنا نتكلم عن ثلاث تطورات:
الأول: الانكشاف المتتالي لشبكات تجسس الموساد في لبنان خلال الفترة الأخيرة، ويعود الفضل في ذلك إلى أجهزة تنصت ألكترونية متطورة امتلكها حزب الله، ويقال أن مصدرها إيران أو ألمانيا، وبفضلها تمكن الحزب من اختراق وسائل اتصال العملاء مع الموساد وتعقب مكان وجود أجهزة البث وتفكيك الخلايا، والتي ما زالت تتساقط حتى اليوم مما يدل على وجود عجز تكنولوجي لدى الكيان في إخفاء اتصالاته وتشفيرها بطريقة تجعلها عصية على الاختراق. وربما قبلنا شكوك البعض بصدقية خبر إلقاء القبض على العملاء لولا الأدلة الملموسة التي تم عرضها من أجهزة اتصال وتجسس ضبطت معهم.
الثاني: قدرة كل من حزب الله وحركة حماس خلال حرب تموز وحرب غزة من اختراق موجات الاتصال اللاسلكي التابع لجيش الاحتلال، والتنصت على مكالماته حيث أن جيشاً نظامياً حديثاً مثل الجيش الصهيوني يعتمد وبشكل كبير على أنظمة التحكم والسيطرة والتي يكون فيها الاتصال اللاسلكي جزءاً هاماً منها. واختراق هذه الموجات ليست بالأمر السهل حيث يتم تشفيرها وتغيير طريقة التشفير بشكل مستمر ولحظي، يعني أي كسر لنظام التشفير يجب أن يراعي التغيرات المستمرة في التشفير، وهذا يحتاج لتكنولوجيا خاصة ومعقدة.
الثالث: تمكن حماس في قطاع غزة من السيطرة على طائرات بدون طيار صهيونية واسقاطها في حرب غزة، كما تكرر الأمر قبل أسبوع أو أسبوعين أثناء أحد التوغلات الصهيونية شمال قطاع غزة. فهذه الطائرات يتم توجيهها لاسلكيا عبر موجات يفترض أنها آمنة وغير قابلة للاختراق، وما يقوم به مقاتلوا القسام إما أنه اختراق تام للموجة والسيطرة على الطائرة وإعادة توجيهها أو أنه تشويش على نظام الاستقبال في الطائرة بحيث تتوقف عن التقاط التعليمات مما يؤدي لسقوطها في النهاية، وفي كلتا الحالتين هي فجوات أمنية بالطائرة لا يبدو أن الصهاينة وجدوا حلاً لها. كما نطرح سؤالاً: ما دام القسام قادر للوصول إلى ترددات هذه الطائرات ألا يعقل أنه يتنصت على المعلومات التي ترسلها إلى مركز التحكم بها؟ ألا يفسر هذا (ولو جزئياً) قلة الخسائر العسكرية التي مني بها القسام خلال حرب غزة بالرغم من أن سماء القطاع كان مجتاحاً بالكامل؟
هل نحن أمام اختراقات تكنولوجية هامة تقلص الفجوة مع الكيان الصهيوني؟ وهل لهذا دلالات على مستقبل العلاقة مع الكيان الصهيوني من ناحية تقنية وتكنولوجية؟ لو تتبعنا الفجوات التكنولوجية منذ الثورة الصناعية قبل مئتي عام وحتى الثورة التكنولوجية منتصف القرن العشرين نجد أن امتلاك التكنولوجية والقدرة على استخدامها يتطلب أموالاً طائلة وخبرات معقدة لا يمكن الحصول عليها بسهولة، لذا كان من الصعب على الدول العربية (فضلاً عن حركات المقاومة) تطوير طائرات تتفوق على الطائرات الغربية أو بناء مفاعلات نووية أو تصنيع صواريخ موجهة أكثر قوة وأكثر دقة مما لدى الكيان الصهيوني.
لكن مع دخولنا عصر ثورة الاتصالات قبل خمس وعشرين عاماً، وثورة المعلومات التي تلتها، أصبح امتلاك التكنولوجية الحديثة أكثر سهولة نظراً لرخص الثمن ولسهولة الاستخدام بل ولسهولة التهريب (نظراً للأحجام الصغيرة التي تتميز بها المنتجات التكنولوجية الحديثة). وبالتالي أصبح امتلاك منظومات الكترونية لديها قدرة التشويش على الطائرات بدون طيار أكثر سهولة من امتلاك صواريخ مضادة للطيران، وأكثر فعالية في الميدان.
لم يعد ممكناً على الغرب أو الكيان الصهيوني احتكار المعلومة والتكنولوجية في عصر الثورة المعلوماتية والثورة الرقمية، فكل شيء متاح وبأسعار بمتناول الجميع تقريباً، فأسعار أجهزة الاتصالات والحواسيب والأجهزة الالكترونية في انخفاض مستمر، وهي تقريباً السلع الوحيدة في العالم التي ينخفض سعرها بشكل مستمر.
ربما يستطيع الصهاينة الحفاظ على تفوقهم في مجال الصناعات الميكانيكية والكهروميكانيكية مثل الطائرات والدبابات والصواريخ الموجهة والقوة النيرانية المختلفة، لكن في مجال تكنولوجية المعلومات والالكترونيات يبدو أن لدينا كطرف مقابل قدرة أكبر على تقليص الفجوة وتشكيل تهديد حقيقي للكيان الصهيوني.
والسؤال لماذا لا نستغل هذه الحقيقة ونعمل من خلالها؟ لماذا لا يتم تطوير أنظمة ألكترونية قادرة على التشويش على الطائرات المقاتلة مثلاً؟ وللعلم استخدم الصهاينة في اجتياح لبنان عام 1982 تقنيات التشويش الالكتروني ضد أنظمة الاتصالات الخاصة بالطيارين السوريين في المعارك الجوية التي وقعت بين الطرفين في الأجواء اللبنانية مما عطل منظومة التواصل بين الطيار السوري وزملائه ومركز القيادة وأدى لتكبد السوريون خسائر فادحة في تلك المعارك الجوية.
المطلوب منا اليوم الاهتمام بمجال تكنولوجية المعلومات وتكنولوجية الالكترونيات لكي ندخل العالم الحديث، ونقلص الفجوات العلمية، ليس فقط في الحياة اليومية بل وفي ميدان المعركة، وهذا يبدأ من خلال توجيه الشباب في دراستهم الجامعية نحو الاختصاصات ذات الصلة، وانتهاء بإعطائها أولوية التطبيق داخل الأطر العسكرية المقاومة والتي يتم تهيأتها لمحاربة العدو الصهيوني. والسؤال هل يمكن أن نرى اليوم الذي تسقط به طائرات مقاتلة أو مروحيات من خلال تقنيات تشويش الكترونية (أو بمساعدتها)؟ وهل سيسبق اليوم الذي يتم اسقاط به الطائرات من خلال الأسلحة المضادة للطيران؟
في الحرب العالمية الثانية تمكن الحلفاء من فك شيفرة اتصالات الجيش الألماني في شمال أفريقيا مما جعل خططهم مكشوفة أمام الحلفاء إلى درجة ظن بها الألمان أن هنالك عملاء للحلفاء داخل قيادة الجيش الألماني، ولم يدرك الألمان أن كل اتصالاتهم المشفرة كان الحلفاء قادرين على فكها، مما أدى لتلقيهم خسائر ساهمت بهزيمتهم في الحرب. فهل من الممكن أن تكون وسائل الاختراق الألكتروني والرقمية عاملاً حاسماً في هزيمة الكيان الصهيوني؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق