في ذكرى انطلاق انتفاضة الأقصى (29/9/2000) سنتكلم عن أسبابها وخلفياتها، وعن تطورات أحداثها، وعن ما بعد الانتفاضة حتى يومنا هذا.
الجزء الأول: الأسباب والخلفيات
وقع ياسر عرفات اتفاقية أوسلو مستعجلًا حصاد الانتفاضة الأولى (قبل أن تنضج ثمارها) حيث قبل بإنشاء سلطة حكم ذاتي محدود مع بقاء الاقتصاد والحدود والأمن والكهرباء والماء بيد الاحتلال بالإضافة لسيطرة كاملة للاحتلال على ثلثي الضفة وثلث غزة والتنازل الكامل عن باقي فلسطين.
كان هم عرفات وفتح هو تمثيل الشعب الفلسطيني أما رابين وحكومته فكانوا يريدون جهة تسيطر على الفلسطينيين بعد أن استنزفتهم الانتفاضة الأولى.
عملت السلطة على استيعاب مناضلي حركة فتح في مؤسساتها تحت وهم "الدولة الموعودة" فيما قمعت بشدة المقاومين وخاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي وأجبرتهما على وقف العمليات بعد 1996 وشنت حملة اعتقالات واسعة وجارفة في غزة والضفة.
نصت اتفاقية أوسلو على التوصل لاتفاقية دائمة بعد خمس سنوات، ورغم تحمس الكثير من الشعب الفلسطيني وقبولهم لحجة حركة فتح بأنها مجرد خطوة نحو التحرير سرعان ما اكتشف الشعب أنه لم يتغير أي شيء جوهري، وسرعان ما وجدت السلطة أن محادثات الوضع النهائي لا تسير إلى أي مكان.
فشلت جهود التوصل لاتفاقية نهائية في محادثات كامب ديفيد عام 2000، أما عرفات فقد اعتاد المراوغة فبعد أن حاول استغلال انتفاضة النفقة عام 1996 للحصول على تنازلات فسعى للاستمرار بهذه المناورات، فحاول اشعال انتفاضة ضد مستوطنة جبل أبو غنيم عام 1997 إلا أن التجاوب الشعبي كان محدودًا.
في ظل انسداد الأفق السياسي واكتشاف الشعب الفلسطيني أنه لم يتغير شيء وأن الاحتلال ما زال جاثمًا فوق صدره مع وجود وكيل له، كانت الأمور تتجه للتصعيد، بينما كانت حماس تستعد بهدوء وبعيدًا عن الأضواء بل نفذت عمليات تحت مسمى وهمي "كتيبة عمر المختار" من بينها تفجير عبوة قرب مستوطنة نتساريم وسط غزة قبل اندلاع شرار انتفاضة الأقصى بيومين فقط.
الجزء الثاني: أحداث انتفاضة الأقصى
كانت زيارة شارون للمسجد الأقصى هي الشرارة التي أشعلت الانتفاضة، حيث استخدم الاحتلال العنف المفرط لقمع الاحتجاجات الشعبية وارتقى عشرات ومئات الشهداء في الأيام الأولى مما زاد الأوضاع اشتعالًا.
هنالك جدل بين المختصين حول موقف عرفات فهل كان ما جرى مخططًا من جانبه أم أنه ركب الموجة ليحسن من شروطه التفاوضية، وأنا أميل إلى الأحداث تدحرجت دون تخطيط مسبق فلا عرفات ولا فتح ولا السلطة يجيدون التخطيط بعيد المدى وجميع تصرفاتهم وقراراتهم ارتجالية ومرحلية، وهنالك أدلة تؤكد ذلك لكن المجال الضيق.
يمكن تقسيم الانتفاضة إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى: المد الجماهيري وامتدت من 29/9/2000 حتى 1/6/2001 حيث تميزت بالطابع الجماهيري (مع عمل مسلح محدود مقارنة بالمراحل اللاحقة) وعدد كبير من الشهداء.
حاول الأمريكان والعرب التوسط بين عرفات والاحتلال للتوصل لاتفاقية وحصل تقدم كبير في مفاوضات طابا إلا أنها فشلت في النهاية.
مع مرور الوقت ضعف المد الجماهيري وبدت الأمور كأنها تتجه نحو الهدوء النسبي خصوصًا بعد شهري 3 و4 إلى أن جاءت المرحلة التالية وقلبت المعادلات.
المرحلة الثانية: ذروة الانتفاضة من منتصف 2001 إلى شهر 4 عام 2002، فرغم أن العمل العسكري كان موجودًا في الساحة منذ الأيام الأولى إلا أن دخول العمليات الاستشهادية لحركة حماس وبالأخص عملية الدولفيناريوم لسعيد الحوتري (1/6/2001) جددت الحياة في انتفاضة الأقصى وأعطتها بعدًا عسكريًا أكثر تأثيرًا.
كانت العمليات في العمق الصهيوني وخصوصًا في تل أبيب وضواحيها بمثابة زلزال هز الكيان الصهيوني من الجذور.
المرحلة الثالثة: الاجتياحات من شهر 4 عام 2002 حتى نهاية عام 2003 حيث قرر شارون اجتياح مناطق السلطة (أ) في الضفة وإعادة احتلال وتفكيك المجموعات العسكرية، وكانت عملية فندق البارك في 27/3/2002 هي الشرارة التي أطلقت ما تسمى "عملية السور الواقي".
احتاج الاحتلال لحوالي شهر لإعادة احتلال مناطق السلطة إلا أن الخلايا استمرت بالعمل والنشاط وأخذ وقتًا أطول حتى وجه ضرباته الكبيرة للمجموعات الأكبر حجمًا وأكثر تأثيرًا.
خلال هذه المرحلة حوصر ياسر عرفات فالصهاينة لم يرضو عن مناوراته ولعبه على الحبال، فيدعم المقاومة من جهة (عبر كتائب الأقصى) ويتفاوض مع الاحتلال وينسق أمنيًا من الجهة الأخرى.
بدأ الاحتلال يبحث عن بدائل لعرفات وبرز عباس الذي فرضه الأمريكان والصهاينة رئيسًا للوزراء عام 2003 كما برز دحلان كمعارض علني لعرفات.
تراجع دور المقاومة في الضفة خلال هذه الفترة بينما انتقل ثقلها إلى غزة التي شهدت ارتفاعًا ملموسًا في العمل المقاوم ضد الاحتلال خلال هذه الفترة.
المرحلة الرابعة: نهايات انتفاضة الأقصى وذلك منذ نهاية 2003 حتى أيلول 2005، حيث استطاع جيش الاحتلال ضرب خلايا المقاومة في الضفة بشكل كبير وأغراه ذلك لاغتيال أحمد ياسين والرنتيسي في بداية عام 2004 لأنه أدرك عجز المقاومة عن الرد.
كما تم تشديد الحصار على عرفات إلى توفي في 11/11/2004.
في غزة استمرت المقاومة بالتقدم واستنزاف الاحتلال، أما شارون وقادة الأجهزة الأمنية فقد أرادوا التركيز على الضفة والانتهاء من ملفها وتأجيل قطاع غزة لاحقًا، وذلك لأسباب كثيرة أهمها:
1- الضفة كانت تضرب في تل أبيب وضواحيها وهذه منطقة حساسة جدًا للاحتلال، أما المستوطنين في غزة وغلافها وباقي مناطق فلسطين فهم أقل أهمية للدولة الصهيونية، وهذه أحد نقاط الخلاف الداخلي الصهيوني، حيث شعر مستوطنو غزة والضفة منذ ذلك الحين بأنهم مهمشون، ويمكن القول أن ما نراه اليوم من تصاعد الخلاف الداخلي في دولة الاحتلال تعود بعض جذوره إلى فترة انتفاضة الأقصى.
2- السبب الآخر هو رغبة شارون تقديم تنازلات تسكت الأمريكان والعرب وأنه سيتنازل عن غزة مقابل أن يستفرد كليًا بالضفة.
بعد وفاة عرفات ومجيء عباس للسلطة أعلن عن حل كتائب شهداء الأقصى واستطاع اقناع المئات من المقاومين الفتحاويين تسليم سلاحهم مقابل "العفو من الاحتلال".
كما بدأ الاهتمام الفلسطيني بالقضايا الداخلية والانتخابات وبدايات الفلتان الأمني في غزة.
انتهت هذه المرحلة بانسحاب الاحتلال من غزة ومستوطنات الضفة ثم الانشغال الفلسطيني بالانتخابات البلدية والتشريعية لاحقًا ويمكن القول أن انتفاضة الأقصى انتهت فعليًا بعد ذلك، رغم بقاء عدة خلايا نشطة في الضفة لعدة سنوات لاحقة.
ما بعد انتفاضة الأقصى
انتهت انتفاضة الأقصى بنتيجة مختلطة حيث تحررت غزة من ناحية وأعيد احتلال الضفة من الناحية الأخرى، حاول الاحتلال إغراق غزة في صراع فلسطيني داخلي بينما تعاون مع السلطة للقضاء على ما تبقى من مقاومة في الضفة الغربية.
شهدت الأعوام الخمسة التالية (2005-2010) بداية مرحلة جديدة ابتعدت فيها فتح والسلطة عن سياسة عرفات (التي زاوجت بين المقاومة والمفاوضات) وتبنت رؤية عباس القائمة على التعاون التام مع الاحتلال.
أعيد بناء الأجهزة الأمنية في الضفة على أسس جديدة وضعها الجنرال الأمريكي دايتون، أما في غزة فواصلت المقاومة تقدمها وتطوير قدراتها وحاول الاحتلال توكيل السلطة وفتح لضربها إلا أنهم فشلوا مع أحداث الانقسام عام 2007م.
استغلت السلطة أحداث الانقسام لتنخرط بشكل أكثر وضوحًا مع الاحتلال في تفكيك ما تبقى من خلايا مقاومة في الضفة، ويمكن القول أنه تمت تصفية آخرها مع اغتيال السلطة للشهيد محمد السمان ورفاقه عام 2009 واغتيال الاحتلال للشهيد نشأت الكرمي في 2010، بعدها دخلت الضفة في مرحلة هدوء وإحباط طويلة الأمد.
بعد نجاح الاحتلال بتهدئة الوضع في الضفة حاول ضرب المقاومة في غزة وإعادتها لحضن السلطة في حرب غزة الأولى عامي 2008/2009 إلا أنه وجد المهمة أكثر صعوبة مما تخيل.
كما أن الثورات العربية ووصول مرسي للحكم ساعد المقاومة في غزة إلا أن الإطاحة بمرسي شجع الاحتلال والسلطة على محاولة خنق المقاومة في غزة، وصولًا لحرب 2014 التي جعلت الاحتلال يقتنع أنه يستحيل اقتلاع مقاومة غزة.
كما ساهمت الحرب ببدء حراك مقاوم متواضع في الضفة وكانت لها بصمتها في انطلاق انتفاضة القدس نهاية عام 2015، وبدا جليًا أن كل ما بذله الاحتلال والسلطة من أجل خلق "فلسطيني جديد" في الضفة لم يكن سوى سراب، وكان واضحًا أن الشباب في الضفة متأهب وراغب للإنخراط في العمل المقاوم، إلا أن الطابع الفردي للانتفاضة لم يسمح لها بالاستمرار طويلًا فبدأت بالتراجع منذ عام 2016 حتى بدايات 2017.
جاءت معركة سيف القدس 2021 خطوة ذكية وجريئة لربط مقاومة غزة مع الضفة والقدس والداخل، وباتت هنالك قناعة في الضفة أن هنالك مجال للعمل المقاوم، وترجم ذلك بعد هروب أسرى الحرية في شهر 9 عام 2021 وتشكيل المجموعات المسلحة الأولى في مخيم جنين، لتتدحرج بعدها ما يمكن أن نسميها انتفاضة جنين.
ما رأيناه خلال العامين الأخيرين (2021-2023) هو استطاعة المقاومة إزالة آثار فترة دايتون والقضاء على المجموعات المسلحة بين 2005 و2010 وربما هي الان في مرحلة إزالة آثار الاجتياحات التي ضربت التشكيلات المسلحة الكبيرة.
في الختام:
باختصار مررنا بمراحل مد وجزر حيث استطاعت الانتفاضة تحرير غزة إلا أن الاحتلال شن هجومًا مضادًا واستطاع تدجين حركة فتح وإعادة السيطرة على الضفة، والآن المقاومة تشن هجومها المضاد لاستعادة السيطرة على الضفة، ما زالت المواجهة في بداياتها إلا أن فرص المقاومة قوية خصوصًا مع تعلمها من أخطاء الماضي بالإضافة للضعف الداخلي في كل من دولة الاحتلال وسلطة أوسلو.
شباب من أجل فلسطين تحاول أن تستثير همة الشباب وتتفاعل مع أفكارهم، فأي فكرة مهما كانت بسيطة نحتاجها ما دامت تخدم القضية الفلسطينية.
الأحد، 1 أكتوبر 2023
في ذكرى انطلاقتها ... انتفاضة الأقصى وما بعدها
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق