من يعرف العقلية الصهيونية، وما يعنيه المسجد الأقصى
(الهيكل المزعوم) بالنسبة للصهاينة واليهود عمومًا، والعقيدة الأمنية الصهيونية،
يدرك أن تنازل نتنياهو عن البوابات بهذه الطريقة والسرعة، هي تنازلات استثنائية
أقرب للهزيمة.
فما الذي أجبر نتنياهو على تجرع السم وتقديم هذه
التنازلات؟
مقدمة:
مثلت عملية الشهداء جبارين في المسجد الأقصى صفعة قوية
للصهاينة، لكنها مثلت في نفس الوقت فرصة لهم من أجل فرض وقائع جديدة على الأرض.
حيث دأب الصهاينة منذ سنوات على التهويد التدريجي للمسجد
الأقصى، والذي يعتقد اليهود أنه مكان الهيكل، ورأى نتنياهو أن العملية فرصة لكي
يقفز في خطوات التهويد لكن تبين لاحقًا أنه تسرع.
كما أن العقيدة الأمنية الصهيونية تقوم على مبدأ الردع
والمبالغة في الانتقام، وتقوم أيضًا على عدم تقديم تنازلات عند تعرض الصهاينة
للتهديد والضغط.
لهذا حرص الصهاينة على القيام بخطوات انتقامية في المسجد
الأقصى، إلا أنهم فوجئوا بردة الفعل العنيفة من الجانب الآخر، مما وضع نتنياهو
أمام معادلة صعبة للغاية: إما كسر العقيدة الأمنية وتقديم التنازلات فورًا أو
التصعيد الميداني الذي كان خطيرًا جدًا لدرجة دفعت الشاباك والجيش لاقناع نتنياهو من
أجل القبول بتقديم التنازلات الكبيرة بالطريقة المهينة.
ما هي الأسباب الخطيرة التي دفعت نتنياهو لتقديم هذه
التنازلات؟
أولًا: اعتصام باب الأسباط، والذي كان المحرك لكافة الجبهات الأخرى في مواجهة
الاحتلال الصهيوني.
لقد تمكن اعتصام باب الأسباط من تحشيد المقدسيين بدرجة
غير مسبوقة للدفاع عن المسجد الأقصى، عندما أحسوا بخطر فقدانه.
ولقد تميز اعتصام باب الأسباط بمرونة مكانية وزمانية،
على عكس اعتصامات عالمية شهيرة مثل اعتصام رابعة في مصر أو اعتصام ميدان "تيان
آن من" في الصين، حيث قام الأمن المصري والصيني بقمع وسحق المعتصمين بطريقة وحشية
قضت على إمكانية الاستمرار في مواجهة الدولة.
بينما في باب الأسباط كان المعتصمون يتفرقون عندما
تهاجمهم شرطة الاحتلال ويعيدون التجمع في أقرب نقطة، فلا يتمسكون بالمكان، كما أن
الأعداد كانت تزيد وتنقص؛ ففي صلوات الظهر والعصر عندما كان الناس في عملهم كان
هنالك بضع عشرات أو مئات من المعتصمين، بينما يزداد العدد إلى آلاف وأكثر في صلوات
المغرب والعشاء.
هذه المرونة في الاعتصام جعلته قابلًا للاستمرار لأسابيع
وأشهر، دون أن يفقد شيئًا من زخمه.
لم يكن الاعتصام يخدم صورة "القدس العاصمة الأبدية
لإسرائيل"، كما أن امتداد المواجهات لأحياء القدس المختلفة وضواحيها، شكل
استنزافًا دائمًا لشرطة الاحتلال.
ثانيًا: عمليات المقاومة وانتفاضة القدس كانت العامل الثاني الحاسم، وبالأخص عملية
الطعن في حلميش التي نفذها الأسير عمر العبد، فقد حققت أسوأ كوابيس جهاز الشاباك.
وبعد أن كانت انتفاضة القدس في طريقها لهدوء غير مسبوق
في النصف الأول من شهر 7 فإذا الأوضاع تنقلب رأسًا على عقب بعد 14/7/2014م.
وشهد الوضع الميداني ارتفاعًا ملحوظًا في أعمال المقاومة
المسلحة والشعبية، بحيث تفيد الأرقام أن شهر 7 هو الأعنف في عامي 2016م و2017م؛
وفقًا للمؤشرات التالية: عدد القتلى الصهاينة (5)، وعدد الجرحى الصهاينة (64)،
وعدد الشهداء (19)، وعدد الجرحى الفلسطينيين (أكثر من 800)، وعدد نقاط المواجهات
(أكثر من 500)، وهجمات الزجاجات الحارقة (أكثر من 90)، وهذه مستويات قريبة من
مستويات فترة ذروة انتفاضة القدس في أشهرها الثلاثة الأولى.
بينما بقيت عمليات الطعن وإطلاق النار منخفضة من حيث
الكم إلا أنها شهدت عمليتين نوعيتين: عملية المسجد الأقصى، وعملية مستوطنة حلميش.
وكان هنالك خطر أن تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة لو
استمرت أحداث المسجد الأقصى لفترة أطول، وخاصة أنه كان هنالك بوادر لانخراط حركة
فتح في العمل الميداني الجماهيري (وليس المسلح).
ثالثًا: لقد كان الوضع الأردني حاسمًا في ترجيح خيار الاستماع لنصيحة الشاباك
والجيش وتقديم التنازلات، وذلك لأنه منذ الثورات المضادة (بعد الانقلاب على مرسي
عام 2013م) قام النظام الأردني بجهد جبار من أجل قمع المعارضة، وتفكيك الإخوان
المسلمين، وتهيئة المناخ السياسي الداخلي الأردني لتغيرات جوهرية.
وبعد أن كان الإخوان المسلمين عاجزين قبل عام عن تنظيم
حفل إفطار جماعي، رأينا كيف حشدوا الآلاف في مسيرات نصرة الأقصى، وكانوا من
السباقين في التفاعل مع أحداث الأقصى منذ اليوم الأول.
لقد بدأت المعارضة الأردنية تستعيد عافيتها وذهبت كل
جهود النظام خلال السنوات الأربعة الماضية أدراج الرياح.
والموقف الأخطر كان عملية الطعن في السفارة الصهيونية،
لأن استمرار الأزمة كان يعني تكرار الهجمات ضد الاحتلال من الشباب الأردني، سواء
في السفارة أو عبر الحدود، وهذا يعني على المدى المتوسط والبعيد فتح جبهة جديدة
الكيان الصهيوني في غنى عنها.
لهذا فقد كان الصهاينة يخشون على حليفهم الوثيق الملك
عبد الله، ويخشون أيضًا على أنفسهم، بسبب حالة الغليان غير المسبوقة في الشارع
الأردني، وهذا ما دفع الملك الأردني لحل مشكلة السفارة بسرعة.
وهذا ما دفعه أيضًا للضغط على الأوقاف في القدس
(والتابعة للأوقاف الأردنية) من أجل إيجاد حل مع الاحتلال بخصوص البوابات
الإلكترونية والكاميرات، إلا أنه وقف عاجزًا أمام الصلابة المقدسية والتمسك بكافة
المطالب، فكان لا بد أن يقدم نتنياهو التنازلات المطلوبة.
رابعًا: بدت الأمور (بعد زيارة ترمب للسعودية) مفتوحة أمام الكيان الصهيوني ليخترق
المنطقة العربية بشكل علني، وإقامة حلف "عربي صهيوني" من أجل محاربة
إيران، والتي سوقت لها السعودية على أنها العدو الأول للعرب، بينما الكيان
الصهيوني هو صديق محتمل للعرب.
لتأتي أزمة المسجد الأقصى لتنسف كل ذلك نسفًا، وعاد
الكيان الصهيوني لمربع الصدارة في قائمة اعداء العرب والمسلمين، وبدأت القضية
الفلسطينية بالعودة لاهتمامات الشعوب العربية والإسلامية بعد أن تراجعت خلال
السنوات الأخيرة.
حتى حلفاء الكيان الصهيوني مثل الملك سلمان والملك
الأردني ومحمود عباس، اضطروا لمجاراة التيار العام ودخول بازار المزايدات، وهذا
دليل على قوة الرأي العام العربي والإسلامي وحجم موجة الاهتمام بقضية الأقصى.
وأجزم أن قرار عباس تجميد التنسيق الأمني مع الاحتلال
(رغم قناعتي أنه تجميد إعلامي وليس حقيقي)، جاء نتيجة الضغوط الهائلة من قاعدة
حركة فتح الجماهيرية.
خامسًا: هنالك عوامل تهديد أخرى أثرت على القرار الصهيوني، رغم أنها لم تشكل خطرًا
وشيكًا، مثل جبهتي جنوب لبنان، وقطاع غزة.
فرغم أن الأوضاع لم تكن تسير نحو التصعيد العسكري في
هاتين الجبهتين، إلا أنه في حال تدحرجت الكرة وانفجرت الأوضاع في الضفة وربما
الأردن، فمن الوارد أن تستغل حماس أو حزب الله انشغال الصهاينة في إطفاء الجبهات
الأخرى، لتوجيه ضربات عسكرية.
وهنا استدل بإطلاق صاروخين بتاريخ 24/7/2017م من قطاع
غزة نحو الكيان الصهيوني، الأول أطلق صباحًا وبدلًا من الرد عليه، زعم الصهاينة
أنه انفجر في الهواء، ثم تبين أنه سقط على الأرض فعلًا، وفي الليل سقط الصاروخ
الثاني وجاء الرد الصهيوني أقل من المعتاد في مثل هذه الحالات، ولم يستخدم الطيران
في قصف غزة، مكتفيًا بقصف مدفعي محدود، وذلك لأن الاحتلال كان يخشى خروج الوضع عن
السيطرة.
ماذا بعد هذا الانتصار؟
رغم أهمية الانتصار في معركة المسجد الأقصى ، إلا أنه ما
لم يتم البناء عليه وتحقيق انتصارات أخرى فسيسعى الصهاينة لتعويض هزيمتهم واسترداد
ما خسروه.
وقد حصل هذا سابقًا عندما انهزموا وانسحبوا من جنوب
لبنان عام 2000م عوضوا ذلك في حرب عام 2006م وانتشار قوات اليونفيل وإبعاد حزب
الله عن الحدود، وتكرر أيضًا عندما انسحبوا من قطاع غزة عام 2005م فعوضوه بحصار
القطاع.
وهكذا رأينا الاحتلال يحاول سرقة الإنجازات من خلال المراوغة، فحاول الإبقاء على بابي حطة
والمطهرة مغلقين، ولولا اعتصام المقدسيين أمامهما لبقيا مغلقين، وكذلك يحاول تفيتش
المصلين بشكل عشوائي، وغير ذلك من أشكال المراوغة.
فالمطلوب هو استمرارية استنزاف الاحتلال في مواجهات
متتالية، حتى لا يستقر أمره وحتى لا نعطيه المجال ليفكر بخطوته التالية، كما أنه
من المطلوب الحفاظ على الزخم المتولد في الأردن والدول العربية، من أجل محاصرة
المطبعين مع الاحتلال من ناحية، ومن أجل محاصرة أنظمة الثورات المضادة، التي حرقت
نفسها باصطفافها إلى جانب الكيان الصهيوني، فهذه فرصة يجب استغلالها من أجل ضربها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق